الكشف عن وثيقة أعدّها باحثون يهود حول مستقبل قطاع غزة

كشف تقرير إسرائيلي جديد عن وثيقة أعدّها باحثون يهود حول مستقبل قطاع غزة بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، الذي شنّته حركة حماس على منطقة الغلاف، وصفها رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي بـ«الرائعة»، تعزز فرضية أن الاحتلال الإسرائيلي ذاهب إلى حكم عسكري في القطاع.

وقال تلفزيون «آي 24 نيوز» إنه بعد وقت قصير من 7 أكتوبر، قدّم 4 باحثين إسرائيليين وثيقة من 32 صفحة إلى مجلس الأمن القومي والكابنيت (المجلس المصغر السياسي والأمني)، بعنوان «من مجتمع قاتل إلى مجتمع معتدل»، تقترح حلاً للقضية الكبرى: من سيحكم غزة في اليوم التالي؟

تطرح الوثيقة التي وصفها رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي بـ«الرائعة»، شرطاً رئيسياً وهو هزيمة «حماس» الكاملة، وتفترض أمرين أساسيين: الأول هو أنه بعد 7 أكتوبر ثبت أنه لا يمكن للاحتلال الإسرائيلي أن يعيش إلى جانب دولة تسيطر عليها «منظمة إرهابية» مثل «حماس». والافتراض الأساسي الثاني، أن غزة يجب أن تظل عربية وفلسطينية.

وتؤكد الوثيقة، أنه حتى لو كانت “إسرائيل” لا ترغب في حكم غزة، وتفضل إقامة حكومة مدنية أخرى في القطاع، فإن خيار الحكم العسكري يجب أن يطفو إلى الأعلى، خاصة إذا كانت “إسرائيل” تريد تنفيذ ما هو مكتوب في الوثيقة.

الكشف عن الوثيقة جاء في وقت يحذر فيه قادة إسرائيليون من أن نتنياهو يعتزم فرض حكم عسكري في القطاع، فخلال فترة الحرب، لم يتردد عن طرح أفكار الوثيقة، متحدثاً عن «نصر كامل وتغيير الثقافة والآيديولوجيا، وتغيير المناهج الدراسية وخلق مجتمع مختلف».

لكن هل يمكن لنتنياهو فرض حكم عسكري في قطاع غزة، بعد الإرهاق الكبير الذي يعاني منه جيشه، ومواصلة «حماس» تنفيذ هجمات خاطفة قاتلة في القطاع، فيما لم يحقق أياً من أهدافه هناك؟! هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.

 

فيما يلي ترجمة للوثيقة الصادرة

 

المؤلفون: البروفيسور نيتا باراك كورين، البروفيسور داني أورباخ، د ناتي بلمر، د هارئيل حورب الجامعة العبرية في القدس، جامعة بار إيلان، مركز دايان، جامعة تل أبيب، ومركز بيغن-سادات.

 

ملخص تنفيذي

تخوض “إسرائيل” حربًا طويلة ضد حكم حماس في قطاع غزة، بهدف تحطيم قدراتها العسكرية والإدارية، وتحرير الرهائن وإزالة قدرة حماس على إلحاق الأذى بـ“إسرائيل” في المستقبل.

أثبت السابع من أكتوبر أن “إسرائيل” لا يمكنها العيش بجانب نظام حماس. في الوقت نفسه، يجب الاعتراف بأن غزة ستبقى فلسطينية وعربية وإسلامية. لذا، فإن قدرة “إسرائيل” على تحقيق أهدافها تعتمد ليس فقط على العملية العسكرية والسياسية الجارية حاليًا، بل أيضًا على إمكانية خلق الظروف التي تسمح بإعادة بناء وتحويل أمة كانت تقاد بإيديولوجية قاتلة. يكون ذلك بنمو مؤسسات مستقرة وثقافة فلسطينية، عربية وإسلامية لا تُعلم الجهاد وتقبل بوجود دولة “إسرائيل” كدولة قومية للشعب اليهودي. كل هذا لضمان الحد الأدنى اللازم لعيش في سلام في الأجلين القريب والبعيد. هذه مهمة ضخمة، تتطلب تفكيرًا عميقًا ومواجهة صريحة لحجم التحدي. هدفنا في هذه الوثيقة هو المساعدة في هذا الجهد من خلال التعلم المقارن من التجارب التاريخية ذات الخصائص المشابهة – ألمانيا، اليابان، العراق وأفغانستان، وكذلك من التغيرات في العلاقات بين “إسرائيل” والفلسطينيين منذ عام 1967. بناءً على ذلك، تقدم الوثيقة توصيات عملية أولية، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة لكل حالة وتكييف الدروس منها مع الواقع الحالي. تتألف الوثيقة من ثلاثة أجزاء: الجزء أ يستعرض المنهجية والنتائج المقارنة الرئيسية من الحالات التاريخية المعروضة، بما في ذلك الدروس المخصصة لكل حالة للتحدي الحالي.

 

الجزء ب يرسم خرائط لنقاط البداية لعملية التحول وإعادة بناء قطاع غزة اليوم.

 

الجزء ج يقدم مقترحاتنا، بناءً على الدروس العامة والخاصة من الحالات المدروسة، مع تكييفها لنقاط البداية في قطاع غزة بعد القتال وعلاقاته مع “إسرائيل”.

 

تحليل الحالات الدراسية يفضي إلى الاستنتاجات الرئيسية التالية:

 

الهزيمة الكاملة شرط أساسي لنجاح التحول وإعادة البناء. التاريخ يعلمنا أنه بدون هزيمة كاملة – بمعنى إنهاء القتال، تفكيك القدرات العسكرية وإزالة النظام القاتل – فإنه لا جدوى من محاولة نزع التطرف، وإعادة بناء الأنظمة، وبناء البنى التحتية الإدارية الجديدة. إعادة البناء تحت النار محكوم عليها بالفشل. في حالة حماس، الهزيمة الكاملة تعني تفكيك جيش الإرهاب التابع لحماس، وكذلك قدراته الإدارية، إلى مستوى غير مهدد. يجب أن تحدد هذه الدرجة من قبل الأمن القومي وفقًا للتطورات الميدانية ويمكن أن تشمل من بين أمور أخرى تعطيل القدرات العسكرية الأساسية أو الغالبية العظمى من القوة العسكرية (القتلى والجرحى غير المؤهلين)، بنيات الإنتاج ومخازن الأسلحة، البنى التحتية تحت الأرض، وقدرات الحكم لحماس. من المهم أيضًا أن يحصل مفهوم واسع في المجتمع الفلسطيني أن حماس قد هزمت ومع ذلك، يمكن البدء بتقديم “إسعافات أولية” في المناطق التي تم تطهيرها من حماس (كما سيتم الإشارة إليه لاحقًا)، حتى إذا كان التنظيم لا يزال موجودًا في مناطق أخرى. في الوقت نفسه، يجب افتراض أن خلايا حماس المعزولة ستبقى في المنطقة وتسعى إلى القيام بعمليات محدودة طوال العملية.

 

نافذة الفرصة للتحول وإعادة البناء قصيرة، ويجب التحرك بسرعة. شهدت ألمانيا واليابان احتلالًا مباشرًا قصيرًا لعدة سنوات. في العراق وأفغانستان، هناك إجماع على أن السنوات الأولى كانت نافذة الفرصة للتغيير، وعندما ضاعت هذه النافذة بسبب الأخطاء التشغيلية والبنية التحتية (كما هو موضح لاحقًا)، ذهب التحول سدى. لذلك، يجب أن تبدأ الإصلاحات لتحويل غزة فورًا، دون إضاعة الوقت الثمين. يتطلب إعادة بناء غزة وتسليمها لإدارة مدنية، والضغط الزمني يعني أنه يجب البدء فورًا في التخطيط وإنشاء آلية فعالة ومتفق عليها لإدارة إعادة البناء، وكذلك تعزيز النظام المدني الوظيفي. أيضًا، من الضروري تحديد أهداف واضحة ذات صلاحية مطلقة وضمان التقدم وفقًا للمعايير المهنية. يجب أن تكون هناك استعدادات مسبقة للمخاطر والعمل على تقليلها قدر الإمكان.

 

السكان الفلسطينيون في مناطق السيطرة الإسرائيلية، المطلوب بالضرورة نظرًا للحاجة إلى معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة للسكان. يجب أن يكون هذا الآلية مستجيبًا لاحتياجات السكان وعاداتهم وأن يتصرف بكرامة تجاه المواطنين. وهذا مطلوب سواء من الناحية الأخلاقية والأخلاقية، أو نظرًا لأهمية بناء علاقات الثقة مع السكان، وعلى الأقل تقليل العداء الأساسي، الضروري لنجاح إعادة الإعمار وبناء أفق إيجابي لغزة. هذا درس متكرر سواء من النجاحات أو من الإخفاقات السابقة.

 

يتطلب التحول الناجح تقديم أفق إيجابي للأمة المهزومة، مشروطًا بالتزامها بشروط قابلة للقياس. التجربة التاريخية تعلمنا أن تقديم أفق إيجابي للاستقلال المتجدد والقبول في مجتمع الأمم ضروريان لنجاح العملية، سواء لجذب السكان والقيادة الجديدة، أو لتحقيق التعاون الدولي المطلوب لتمويل وتنفيذ الإصلاحات. لهذا الغرض، يجب أن يكون الأفق طويل الأمد لعملية التحول وإعادة البناء هو إنشاء كيان فلسطيني مستقل. لكن استقلال هذا الكيان يجب أن يكون مشروطًا بشروط صارمة، وأبرزها التعليم من أجل السلام، والابتعاد عن العنف والإرهاب، والكفاءة الأمنية والإدارية. التجربة التاريخية تعلمنا أن العملية لتحقيق هذه الشروط تبدأ بمرحلة أولية من الإدارة والإشراف الخارجي الفلسطيني. يمكن تنفيذ هذه الإدارة من خلال قوة دولية، بما في ذلك عربية، تشارك فيها “إسرائيل” مباشرة أو بشكل غير مباشر، أو حصريًا من قبل “إسرائيل”. كما سنوضح، من العديد من الجوانب من الأفضل ألا تقود “إسرائيل” الجسم المعاد بناءه. ومع ذلك، حتى لو كانت “إسرائيل” غير مهتمة بالسيطرة على غزة وتفضل حكمًا مدنيًا آخر في القطاع، يجب أن تبقى خيار الحكم العسكري الإسرائيلي واضحًا في الخلفية، ويجب أن يكون نقل الحكم من أي نوع مشروطًا بالإصلاحات في الحكم والتعليم والتمويل وإخراج المنظمات الإرهابية من القانون. إذا أوضحت “إسرائيل” مسبقًا أنها ستخرج من غزة في كل الأحوال، فلن يكون هناك دافع للعوامل الإقليمية والمحلية للعمل بجد لإنشاء بديل لحماس، لأن الفهم السائد سيكون أن عودتها هي مجرد مسألة وقت.

 

يجب أن يكون التقدم معتمدًا على تحقيق الأهداف وليس على جدول زمني صارم. بمجرد أن يفهم السكان أن هناك التزامًا بالخروج بحلول تاريخ معين بدون النظر إلى التقدم في عملية التحول، فإن النتيجة المتوقعة هي انهيار مشابه لما شهده الأمريكيون في أفغانستان. الانسحاب دون إزالة حكم حماس وبناء بنية تحتية حكومية وتعليمية بديلة سيبطل أي إنجاز.

 

يجب بناء الروح بجانب المادة. لا يمكن أن يقتصر التحول وإعادة البناء على ضخ الموارد المادية – البنية التحتية، الطعام، الأدوية، إلخ – إلى المنطقة. هذه الموارد ضرورية لكنها غير كافية. إزالة الرغبات الجهادية سيكون ممكنًا فقط من خلال معالجة نظم التعليم والدين والإعلام، بما في ذلك المحتوى (كما سنوضح)، ولكن بطريقة متصلة وليست معارضة للسمات الثقافية الأساسية في قطاع غزة.

 

يعتمد التغيير على الاستمرارية. في النظرة الأولى يبدو هذا متناقضًا، ولكن جميع المحاولات لإعادة البناء والتحول، وبالأخص الناجحة منها، استثمرت جهودًا كبيرة في إنشاء رواية مستمرة للأمة المهزومة، رواية تسمح لها بالاعتماد على عناصر معينة من هويتها مع تحويل الهوية نحو اتجاه بناء وغير عنيف. هكذا في الحكم (بحفظ بعض العناصر من الحكم القديم)، وفي التعليم والثقافة (ببناء رواية هوية مستمرة)، وكذلك في الجانب السياسي (بإنشاء أفق إيجابي للأمة المهزومة وإعادة دمجها في النظام الإقليمي والعالمي). في الحالة الحالية، يجب الاعتماد على تقاليد الإسلام السني والثقافة العربية لخلق التغيير المستمر، مع إعطاء الأولوية للنسخ المعتدلة منها في التعليم والثقافة، وتقديم رؤية ملموسة وإيجابية للفلسطينيين للتمسك بها، كحكم ذاتي فلسطيني منزوٍ في نهاية المطاف كجزء من نظام إقليمي معتدل، الذي سيتحقق إذا (وفقط إذا) نجح التحول وإعادة البناء.

 

يتطلب التحول الناجح اتخاذ قرارات براغماتية، بما في ذلك تجاه أفراد النظام القديم. لا يمكن البدء من الصفر ويمكن إدارة غزة فقط من خلال أشخاص هم جزء منها. النجاحات في ألمانيا واليابان جاءت من ضبط الاندفاع للتطهير الشامل لأفراد النظام السابق، بينما الفشل في أفغانستان، وخاصة في العراق، جاء من التطهيرات الواسعة النطاق، التي انهارت مؤسسات الحكم وخلقت فوضى واضطرابات كانت بمثابة بيئة خصبة للعنف والإرهاب. لتجنب مصير مشابه في غزة، يجب إزالة الطبقة القيادية والإدارية العليا في حماس ومن لديهم دم على أيديهم من السلطة، وإظهار المرونة في دمج الطبقة الوسطى وما دونها، “التكنوقراط”، إلى جانب عشرات الآلاف من الموظفين من السلطة الفلسطينية الذين عملوا في القطاع حتى اندلاع الحرب. من يكون على استعداد لقبول التزامات الحكومة الجديدة لن يتضرر بل سيكافأ. من يواصل طريق الإرهاب – سيعاقب بشدة.

 

عملية التحول وإعادة البناء مكلفة ومعقدة ولا توجد ضمانات لنجاحها. يجب تطوير الاستعداد العقلي والعملي لإمكانية الفشل – ووضع خطط بديلة.

 

نقترح تنفيذ هذه المبادئ من خلال خطوات ملموسة مستمدة من النجاحات والإخفاقات التي درسناها:

 

  1. إنشاء آلية فعالة فورًا للتعامل مع الأزمة الإنسانية في غزة

 

أ) يجب السيطرة في أسرع وقت ممكن على معالجة القضايا الإنسانية في غزة، بهدف منع تدهور إضافي، ومساعدة السكان المدنيين، وحرمان حماس من أحد أهم قواعد التجنيد لدعوة. كان يجب القيام بذلك قبل أشهر عديدة، ومن الضروري القيام بذلك اليوم.

 

ب) على المدى القصير، يمكن ل”إسرائيل” السيطرة على الأزمة من خلال وحدات الحكم في الاحتياط والخدمة الفعلية، كجسم ماهر ينظم ويشرف على تخصيص جميع الموارد المنقولة إلى القطاع. لهذا الغرض يمكن ويجب الاستفادة من آليتين رئيسيتين:

 

ج) موارد المنظمات الدولية والموظفين العاملين فيها، والمتخصصين في معالجة الأزمة الإنسانية.

 

د) آلاف موظفي السلطة الفلسطينية في غزة، الذين يستمرون في تلقي الرواتب ويحتفظون بمعرفة محلية واسعة، المناسبة للتعامل مع أزمات الرفاهية. يمكن لمشاركتهم في الإدارة المؤقتة أن تحقق أيضًا قيمًا إضافية: بناء الثقة مع السكان، وبناء القيادة المحلية، وإمكانية جذب دعم سلطة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية للعملية.

 

ه) من الأفضل أن يكون مستوى ظهور النشاط الإنساني مرتفعًا قدر الإمكان، شريطة أخذ الاعتبارات الأمنية للعاملين بعين الاعتبار، بهدف حرمان حماس من أي حضور شبه حكومي أو تشغيل آليات الدعوة، وزرع الفهم بأن هزيمة حماس مطلقة.

 

  1. نزع التطرف من التعليم والثقافة

 

أ) تطهير نظام التعليم من طبقة من المعلمين المتطرفين بشكل خاص، في المدارس ومؤسسات التعليم العالي. هنا أيضًا، تشير التجربة التاريخية إلى أن الجسم المعاد بناؤه سيحتاج إلى اتخاذ قرارات براغماتية.

 

ب) منع الكتب المدرسية الحالية واستبدالها بكتب مدرسية ذات محتوى معتدل. بالنظر إلى التطورات الإيجابية في الكتب المدرسية في الإمارات والسعودية، نوصي بأن تبادر “إسرائيل” في أقرب وقت ممكن إلى مراجعة شاملة للكتب المدرسية في الدول العربية المعتدلة (التقارير حول الموضوع موجودة بالفعل من قبل منظمات مختلفة); وتأسيس اتفاقيات لاستيراد أفضل الكتب المدرسية من شركائها العرب؛ وجذب الدول العربية المعتدلة لتطبيق تحول النظام التعليمي الغزي، من خلال تطوير وتكييف المناهج الدراسية للسياق الفلسطيني، تدريب المعلمين، وحتى دمج المعلمين من هذه الدول في المدارس نفسها، حتى اكتمال تدريب معلمين جدد. من الأفضل أن تكون المشاركة الإسرائيلية في العملية الحد الأدنى الممكن.

 

ج) إنشاء هيئات لمراقبة التحريض على الإرهاب في المدارس والإعلام، دون الانحدار إلى الكوميسارية.

 

د) من الخطر ربط نزع التطرف بالديمقراطية، وهي خطوة فشلت حتى الآن في كل مكان تم تجربتها فيه في العالم العربي.

 

يجب ألا تكون الهدف تحويل غزة إلى ديمقراطية غربية بل أكثر تواضعًا وأقل وصاية: تحويلها إلى كيان عربي-إسلامي معتدل وغير جهادي. حتى في ألمانيا واليابان، استغرق الأمر سنوات عديدة حتى ظهرت مؤسسات وقوى سياسية يمكنها إقامة وحفظ ديمقراطية مستقرة؛ في العراق وأفغانستان، لم تصمد الديمقراطية حتى بعد استثمار سنوات عديدة وموارد ضخمة في تطويرها. تفاصيل توصياتنا موجودة هنا.

 

  1. بناء البنية التحتية المؤسسية للتحول وإعادة الإعمار

 

 أ) إنشاء حكومة مؤقتة في المناطق المحتلة، بشكل فوري. لتحقيق النجاح في تحويل وإعادة بناء السكان في غزة، يجب إنشاء سلطة حكومية مدنية هناك؛ تم ذلك في جميع عمليات التحول وإعادة الإعمار في الماضي. كما ذكرنا، نوصي بأن تعمل “إسرائيل” على إنشاء حكومة مؤقتة الآن – من الأفضل بالتعاون مع الحلفاء والقوى المحلية المعتدلة – التي ستتعامل في البداية مع الاحتياجات الأساسية والفورية للسكان المدنيين – المساعدات الإنسانية، الغذاء، الطب، المأوى. الجسم الذي سيقود عمليات إعادة الإعمار والتحول (الجسم المعاد بناؤه) يمكنه ولكنه ليس مضطرًا للتطور من هذه الحكومة المؤقتة، ومن المتوقع أن يتعلم من دروسها وتجربتها.

 

ب) يجب أن تكون “إسرائيل” منظِّمة وليست منفذة في الشؤون المدنية. يجب على “إسرائيل” الانتقال في أسرع وقت ممكن إلى وضع المنظم، ومن الأفضل أن تكون المشاركة غير مباشرة (ولكن فعالة) في شؤون غزة. المشاركة المباشرة الواسعة ل”إسرائيل” ستفسد جهود التحول، حيث سيتم اعتبار المنفذين للإصلاحات متعاونين وليسوا وكلاء تغيير حقيقيين. سيشمل التنظيم من بين أمور أخرى: إخراج حماس والمنظمات الإرهابية عن القانون؛ الإشراف على الإصلاحات التحول وإعادة الإعمار؛ تطبيق الإدارة السليمة؛ مراقبة التمويل الذي يمكن استخدامه للإرهاب؛ مراقبة دخول الجهات الخارجية إلى القطاع.

 

ج) في أقرب وقت ممكن، يجب إنشاء إدارة مدنية فلسطينية دائمة لإدارة القطاع وتنفيذ التحول وإعادة الإعمار. في الوقت نفسه، يجب منع حماس من إعادة تشغيل نظام الدعوة – الزكاة والرفاهية، ويجب منع حماس من الحصول على الفضل في أعمال إعادة الإعمار، الرفاهية، الخير، المساعدة، والدين – أي عمل يمكن أن يمكنه من استعادة السيطرة على قلوب السكان.

 

د) يجب استغلال عمليات إعادة الإعمار لدفع قدم أونروا من القطاع. يمكن دمج العاملين في أونروا من غزة في المؤسسات الجديدة، مع تطهير الداعمين لطريق الجهاد والذين لديهم دم على أيديهم، وفقًا للخط البراغماتي الذي يجب تطبيقه على كل البيروقراطية الحالية.

 

ه. إشراك الدول العربية المعتدلة في جهود التحول وإعادة الإعمار، من الأفضل كجزء من الجسم المعاد بناؤه. تجربة هذه الدول في التعليم، والاقتصاد، وبناء المؤسسات، ضرورية لنجاح تحول غزة. بالإضافة إلى ذلك، مشاركتهم ضرورية لدمج القطاع والفلسطينيين في محور جيوسياسي بديل لمحور حماس-حزب الله-إيران. من المهم التأكيد على أن مشاركة الدول العربية المعتدلة لا تهدف إلى استبدال الحاجة إلى تنمية طبقات إدارة محلية وإدارة غزة، في أقرب وقت ممكن، من قبل سكانها. تفاصيل توصياتنا موجودة هنا

 

تنمية القيادة البديلة وخلق شرعية دينية لتحول غزة

أ. يجب تحديد بدائل قيادية ممكنة لحماس، مع التركيز على القيادة الدينية، وتقييمها في أسرع وقت ممكن. من سيحل محل حماس هو سؤال صعب لا تزال الإجابة عليه غير معروفة، نظرًا للقمع العنيف لأي معارضة خلال سنوات حكمها الطويلة. بجانب الحاجة إلى قيادة سياسية جديدة لقيادة إعادة الإعمار، يجب أن نتذكر أن الإسلام جزء مركزي من الأيديولوجية الفلسطينية، خاصة في غزة. ستحسن فرص نجاح جهود التحول وإعادة الإعمار في غزة بشكل كبير إذا تم الحصول على شرعية قيادية إسلامية لهذه العملية، كما أظهرت النجاحات والإخفاقات في محاولات مشابهة في الماضي.

 

ب. في هذا السياق، يجب تجنيد رجال الدين السنيين الذين هم على استعداد للاعتراف ب”إسرائيل” من الإمارات، البحرين، السعودية، والجناح الجنوبي للحركة الإسلامية، وإشراكهم في عملية التحول، حتى لو كانوا يوافقون على المشاركة فقط خلف الكواليس.

 

ج. يجب إنشاء أكاديميات للقيادة على نموذج الإمارات العربية المتحدة والسعودية لتمكين نمو جيل جديد من القادة، الذين سيكونون متجذرين بعمق في التراث الإسلامي السني، وهو مهد الثقافة في المجتمع الفلسطيني، وفي الوقت نفسه مرتبطون بالنسخة الأكثر اعتدالًا منها التفاصيل هنا.

 

إعادة بناء النظام الاجتماعي في القطاع

 

أ. يجب إنشاء قوات شرطة محلية في أسرع وقت ممكن، تبدأ كحراس مدنيين في الأحياء بدون قيادة مركزية، وتنمو تدريجيًا لتصبح قوة موثوقة قادرة على فرض النظام في القطاع. من الأفضل أن يتم إنشاء هذه القوة من خلال حلفاء وتكون منفصلة بوضوح عن النشاط الأمني والعسكري الذي تنفذه “إسرائيل”. يجب التأكد من عدم تسلل عناصر حماس الواضحة إلى القوة، ومراقبة نشاطها عن كثب لتحديد العناصر المحرضة وإزالتها في وقت مبكر.

ب. يجب استغلال نتائج الحرب المتوقعة، التي أدت إلى حد كبير إلى تفكيك الشبكات الاجتماعية المحلية التي اعتمدت عليها حماس في التجنيد، تشغيل القوات، والقيادة، لمنع التنظيم من العودة والاستقرار بسرعة. يشمل ذلك بشكل خاص استكمال تفكيك مخيمات اللاجئين وبناء أحياء منظمة في ظروف معيشية مناسبة مكانها. في تقديرنا، التحول من نظام اجتماعي يحافظ على اللجوء الدائم إلى نظام اجتماعي يعترف بحياة الاستقرار للمواطنين في غزة سيكون شرطًا أساسيًا لواقع جديد في غزة.

 

ج. في هذا السياق، يجب إعادة بناء القطاع بطريقة تمنع إنشاء جيوب من عدم الحوكمة وتفكيك الشبكات الإقليمية التي تسيطر عليها حماس. نوصي بإنشاء تنظيم إقليمي جديد بدلاً من التنظيم الذي كانت تستخدمه حماس.

 

يجب التأكيد على أن اقتراحاتنا تستند إلى تحليل تاريخي مقارن لاستخلاص رؤى للحاضر، مع الأخذ في الاعتبار السياق الاجتماعي، الثقافي، والسياسي الذي يختلف من مكان لآخر. استخدمنا في كتابة الوثيقة معلومات علنية، ولكن لا نملك معلومات كاملة عن الوضع الحالي في غزة ومجال إمكانيات العمل الإسرائيلي، الإقليمي، والدولي. من الواضح أن الصورة المعلوماتية الكاملة ضرورية لتطبيق أفضل لدروس الماضي على الحاضر وأن غيابها يحد من قدرتنا على تقديم توصيات دقيقة وشاملة. خلال الوثيقة طرحنا أسئلة وثغرات، والإجابة عليها ستحسن القدرة على صياغة توصيات أكثر تحديدًا. في الوقت الحالي، يجب اعتبار توصياتنا كإطار أولي وليس بالضرورة شاملاً. نأمل أن توفر الصورة المعرفية التي نعرضها للقراء في بقية الوثيقة، جنبًا إلى جنب مع النهج التحليلي لاستخلاص الدروس وتوضيح تطبيقها على الصورة المعلوماتية المتوفرة لدينا، فائدة لصناع القرار في صياغة خطة أكثر شمولاً ودقة بناءً على المعلومات التفصيلية والمحدثة التي لديهم.

 

التحدي والدافع

 

“إسرائيل” تخوض حربًا طويلة الأمد ضد حكم حماس في قطاع غزة، بهدف تحطيم قدراته العسكرية والإدارية، تحرير الرهائن والرهائنات، وإزالة قدرة حماس على إلحاق الأذى ب”إسرائيل” في المستقبل. أثبت السابع من أكتوبر أن “إسرائيل” لا يمكنها العيش بجانب نظام حماس. في الوقت نفسه، يجب الاعتراف بأن غزة ستبقى فلسطينية، عربية وإسلامية. لذا، فإن قدرة “إسرائيل” على تحقيق أهدافها تعتمد ليس فقط على الحملة العسكرية والسياسية الجارية حاليًا، بل أيضًا على إمكانية خلق الظروف التي تسمح بإعادة بناء وتحويل أمة كانت تحت حكم أيديولوجية قاتلة، بما في ذلك نمو مؤسسات مستقرة وثقافة فلسطينية، عربية وإسلامية لا تعلم الجهاد وتقبل بوجود دولة “إسرائيل” كدولة قومية للشعب اليهودي. كل هذا لضمان الحد الأدنى اللازم للحياة في سلام على المدى القريب والبعيد. هذه مهمة هائلة، تتطلب تفكيرًا عميقًا ومواجهة صريحة لحجم التحدي. هدفنا في هذه الوثيقة هو المساعدة في هذا الجهد من خلال التعلم المقارن من التجارب التاريخية ذات الخصائص المشابهة – ألمانيا، اليابان، العراق وأفغانستان، وكذلك من التحولات في العلاقات بين “إسرائيل” والفلسطينيين منذ عام 1967. بناءً على ذلك، تقدم الوثيقة توصيات عملية أولية، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة لكل حالة وتكييف الدروس منها إلى الواقع الحالي. تتألف الوثيقة من ثلاثة أجزاء: الجزء أ يستعرض المنهجية والنتائج الرئيسية من الحالات الدراسية التاريخية. الجزء ب يرسم خريطة لنقاط البداية لعملية التحول وإعادة بناء قطاع غزة اليوم. الجزء ج يقدم مقترحاتنا، بناءً على الدروس العامة والخاصة من الحالات الدراسية، مع تكييفها لنقاط البداية في قطاع غزة بعد القتال وعلاقاته مع “إسرائيل”.

 

  • المنهجية والنتائج الرئيسية

افتراضنا الأساسي هو أنه من أجل مواجهة التحدي الهائل الذي يواجه “إسرائيل”، يجب دراسة النجاحات والإخفاقات في المحاولات التاريخية لمواجهة تحديات مشابهة، وتكييفها مع ظروف النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني-العربي في الوقت الحالي. تركز الوثيقة على أربعة حالات ذات صلة: ألمانيا واليابان.

.

بعد الحرب العالمية الثانية، العراق بعد حرب الخليج الثانية (2003-2011) وأفغانستان (2001-2020). أثناء عملية العمل قمنا أيضًا بدراسة حالات أخرى، ولكن قررنا التركيز على تلك التي بدت لنا الأكثر صلة بالوضع الحالي، مع الأخذ في الاعتبار نوع الصراع، حدة العداء، العنف والتربية على القتل، نوع النزاع والطموحات السياسية للطرفين، الاستعداد لنزع السلاح، وغيرها. النزاع بين “إسرائيل” وحماس لا يشبه أي من الحروب الأهلية التي وقعت منذ الحرب العالمية الثانية، كما أنه لا يشبه الصراعات السياسية العنيفة التي تتعلق برغبة مجموعة واحدة في الانفصال ومجموعة أخرى في الوحدة. حكم حماس في غزة يمثل تلاقياً بين الطغيان السياسي الداخلي – نظام شمولي يقمع كل المعارضة الداخلية – وبين القتل الأيديولوجي الموجه للخارج، الذي يسعى بشكل معلن وعملي إلى تدمير دولة “إسرائيل”. هذه الخصائص موجودة إلى أقرب حد في الأمثلة التي ركزنا عليها، وخاصة في ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. العراق وأفغانستان كانتا أيضًا تحت حكم أنظمة مستبدة، بدرجات متفاوتة من القتل والإمبريالية، وهناك دروس مهمة في خصائص مشروع التحول وإعادة الإعمار الذي تم تطبيقه في كل منهما. من كل حالة استخلصنا دروسًا رئيسية، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة لكل حالة، ثم استعرضنا في ضوء ذلك التجربة الإسرائيلية في السيطرة على السكان الفلسطينيين والتحولات في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. تشكّل مجموعة الدروس هذه أساس اقتراحنا، الذي يقدَّم في الفصل ج من الوثيقة.

 

أ. 1. ألمانيا تُعتبر ألمانيا واحدة من التجارب الناجحة في “تحويل” أمة ديكتاتورية وفانتازية أيديولوجياً إلى دولة ديمقراطية مزدهرة وليبرالية. استند نجاح العملية على ثلاثة شروط أساسية مترابطة: الهزيمة المطلقة للنازيين في الحرب، الاستسلام غير المشروط للنظام النازي، والاحتلال الكامل للبلاد من قبل الحلفاء. الهزيمة المطلقة والاستسلام الرسمي للآليات النازية أدى إلى أن الحلفاء لم يواجهوا مقاومة مسلحة كبيرة في احتلال ألمانيا وتنفيذ خطط إعادة الإعمار والتحول لألمانيا. لو كانت هناك مقاومة، فمن المرجح أن الحلفاء كانوا سيجدون صعوبة في تنفيذ خططهم، وبالتأكيد لم يكونوا سينجحون بنفس الكفاءة (انظر المناقشات حول العراق وأفغانستان لاحقًا).

 

مراحل عملية إعادة إعمار ألمانيا: احتلال مباشر، احتلال غير مباشر، استقلال منسق كانت عملية إعادة إعمار ألمانيا، بشكل عام، لها ثلاثة مراحل. السنوات الأولى، 1945-1949، كانت سنوات احتلال مباشر. في بدايتها، كانت الدولة المقسمة تُدار من قبل قوات الاحتلال التابعة للحلفاء، كل واحدة في منطقتها، ولم يكن هناك إدارة ألمانية على أي مستوى حكومي، حتى في السلطات المحلية. تدريجيًا، سمح الحلفاء للسلطة الحكومية الألمانية بالنمو من جديد. في الجزء الغربي من ألمانيا، كان للحكومة طابع ديمقراطي وفي الجزء الشرقي – شيوعي. كانت هذه السنوات من الإصلاحات المكثفة وفي نهايتها انتهى الاحتلال المباشر لألمانيا.

 

المرحلة الثانية، بين 1949 و1955، هي مرحلة الاحتلال غير المباشر. سمح الحلفاء بقيام حكومات ألمانية على المستوى الوطني، واحدة في ألمانيا الشرقية والأخرى في الغرب، لكن هذه كانت حكومات تحت الوصاية. في الواقع، حتى في ألمانيا الغربية، احتفظ الحلفاء بالسلطة الأمنية والكلمة الأخيرة في كل مسألة كانت مهمة لهم بما يكفي للتدخل فيها.

 

في المرحلة الثالثة، من 1955 فصاعدًا، حصلت ألمانيا الغربية على استقلال ملحوظ، لكن الروابط بقيت وثيقة. خاصة، بقيت السياسة الخارجية والأمنية منسقة تمامًا بفضل حلف الناتو. لم تنقطع أبدًا العلاقة الأمنية والسياسية بين ألمانيا والحلفاء، واحتفظت الولايات المتحدة بوجود عسكري في ألمانيا كجزء من حلف الناتو. بقي التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول ثابتًا وأسس المصالح الأمنية والسياسية في مكانها.

 

عناصر إعادة إعمار ألمانيا وإعادة بنائها شملت عملية تغيير ألمانيا، في كل من مرحلة الاحتلال المباشر ومرحلة الاحتلال غير المباشر، ستة أركان رئيسية: محاكمة مجرمي الحرب، إزالة النازية، إعادة الإعمار الاقتصادي، الإصلاحات التعليمية، الديمقراطية، وإعادة بناء النظام البيروقراطي والسياسي.

 

شملت محاكمات مجرمي الحرب سلسلة من المحاكمات المعروفة بمحاكمات نورمبرغ (حيث حوكمت فيها قيادة النظام وأعضاء نخب مختلفة، أطباء، موظفون كبار، وكذلك مؤسسات مختلفة، لتحديد ما إذا كانت مؤسسات إجرامية أم لا)، إلى جانب محاكمات فرعية لمجموعات محددة من المجرمين (محاكمة أينزاتسغروبن، محاكمات داخاو، إلخ). لم تكن محاكمة المجرمين النازيين تهدف فقط إلى تحقيق العدالة، ولكن أيضًا وبالأساس إلى إرسال رسالة إلى الشعب الألماني بأن النظام والآلية النازية قد هُزما. نجحت هذه العملية جزئيًا فقط. فقد تم إعدام بعض المجرمين الكبار أو حكم عليهم بالسجن لمدد طويلة. ولكن بمجرد أن بدأت الحرب الباردة، وكان هناك حاجة لاسترضاء ألمانيا، أُطلق سراح العديد منهم أو حوكموا من قبل المحاكم الألمانية التي أصدرت عليهم أحكامًا مخففة نسبيًا.

 

إلى جانب المحاكمات، أطلق الحلفاء عملية عُرفت باسم “إزالة النازية”. في السنوات الأولى من

 

إذا اعتُبرت مساهمة الفرد في النظام النازي عالية جدًا في نظر الفاحصين الأمريكيين أو البريطانيين أو الفرنسيين، فقد فُرضت عليه عقوبات مثل الحظر من تولي مناصب معينة في القطاعات العامة والخاصة. يُعتبر عمومًا أن عملية إزالة النازية كانت فاشلة: حيث وجد الألمان بسرعة طرقًا للتحايل عليها، خاصة من خلال توظيف شهود يهود أو شيوعيين أو سجناء سابقين في معسكرات الاعتقال الذين “نقوا” الماضي لأي شخص دفع لهم، أو من خلال لجان تحقيق أدت واجبها بشكل سطحي. بالإضافة إلى ذلك، نظرًا لأن إزالة النازية استهدفت جميع المواطنين وليس فقط القادة والضباط، فقد اعتبرها العديد من المواطنين تهديدًا شخصيًا وظلمًا. هذه المشاعر جعلت أيضًا من محاكمات مجرمي الحرب شيئًا مكروهًا في أعين الألمان العاديين.

 

أمن الداخل: تم تفكيك الشرطة الألمانية، التي كانت مرتبطة بشكل وثيق مع قوات الأمن الخاصة، مع الاحتلال في عام 1945، واعتُقل العديد من ضباطها لكونهم أعضاء في قوات الأمن الخاصة. أنشأ الحلفاء كل منهم في منطقته قوات شرطة بديلة على أساس محلي. كانت الفكرة هي إحياء التقاليد الفيدرالية الألمانية لتمييز قوات الشرطة الجديدة عن نظام الأمن الداخلي المركزي والقمعي للنازيين. في بداية الاحتلال، طُبقت قوانين إزالة النازية الصارمة على الشرطة الجديدة وتم تجنيد معظم الأفراد الجدد أو ضباط الشرطة القدامى من فترة فايمار، بدون أي تاريخ نازي. ومع ذلك، فإن الحاجة إلى قوة بشرية ذات خبرة سرعان ما أدت إلى تنازلات وبدأ الحلفاء بقبول النازيين السابقين في قوات الشرطة الجديدة. بحلول الخمسينات، كان من الممكن العثور حتى على أعضاء سابقين في الجستابو في قمة الشرطة الجنائية.

 

المساعدة الاقتصادية: جرى كسب قلوب الشعب الألماني جزئيًا من خلال المساعدة الاقتصادية السخية والواسعة النطاق عبر “خطة مارشال”، التي ساعدت الاقتصاد الألماني على النمو بسرعة من أنقاضه. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أن خطة مارشال بدأت فقط في عام 1948، بعد حوالي ثلاث سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن جزءًا كبيرًا من إعادة الإعمار تم قبل إطلاقها، غالبًا من قبل دول كانت فقيرة ومدمرة بنفسها، مثل بريطانيا وفرنسا. تشير الأبحاث إلى أن النمو الاقتصادي الألماني لم يكن فقط بسبب الأموال التي تم ضخها عبر خطة مارشال، بل أيضًا من الاقتصاد القوي والخبرة التجارية والصناعية التي كانت موجودة في ألمانيا من قبل. بمعنى آخر، لا يمكن استنتاج من نجاح خطة مارشال أن الأموال والاستثمار في البنية التحتية هما شروط كافية. الاستثمار الاقتصادي يكون مجديًا في الظروف التي يوجد فيها إدارة جيدة، رأس مال بشري، معرفة علمية/تكنولوجية وبنية تحتية يمكن أن تُبنى عليها اقتصاد قوي. خلاف ذلك، قد تُهدر المساعدات المالية في مستنقع من الفساد وعدم الكفاءة.

 

نفذ الحلفاء إصلاحات تعليمية وثقافية واسعة النطاق في جميع أنحاء ألمانيا. نفذت كل من الدول الثلاث الغربية الحليفة – الولايات المتحدة، بريطانيا، وفرنسا – إصلاحات مختلفة في مناطقها، لكن كلها كانت تهدف إلى تعليم الأمة الألمانية قيم السلام، عدم العدوان، والديمقراطية. كانت شروط الإصلاحات التعليمية صعبة. أولاً، تم تدمير جزء كبير من المدارس في الحرب، وفي بعض المدن كانت هذه النسبة تصل إلى 80٪ من المدارس أو أكثر. ثانيًا، على الرغم من أن الحلفاء أرادوا تطهير النظام من النازية، إلا أن فصل جميع المعلمين النازيين كان سيترك النظام تقريبًا بدون معلمين. في النهاية، طور الحلفاء استبيانات واختبارات خاصة للمعلمين، والتي تركت بين 66-70٪ من المعلمين و75٪ من الأساتذة في الجامعات في وظائفهم. نتيجة للتنقية، اضطرت بريطانيا إلى تدريب حوالي 8000 معلم جديد وفرنسا حوالي 5000. ثالثًا، الحاجة الملحة لإعادة الطلاب إلى المدارس فورًا، رغم نقص المعلمين، الفصول الدراسية، المناهج الدراسية، والكتب المدرسية المعتمدة، أدت إلى أن الإصلاحات التعليمية تطورت بشكل فوضوي، خاصة في العامين الأولين (1945-1947).

 

من الناحية المضمونية، ركزت جميع الإصلاحات التعليمية على إيجاد نقاط ارتكاز إيجابية في الثقافة الألمانية، يمكن من خلالها بناء هوية ألمانية تسعى للسلام وتكون استمرارًا للتاريخ والسرد الألماني. شملت هذه النقاط مساهمة الألمان في عوالم الروح، الفلسفة والفنون، وكذلك الثقافة والتاريخ المشتركين للألمان والغرب. لكن هنا تباعدت طرق القوى العظمى.

 

اعتقد البريطانيون أن الرقابة أفضل من الدعاية – من الأفضل إخبار الألمان بما لا يجب تعليمه بدلاً من ضخ محتوى معين لهم. استندت هذه المقاربة إلى الاعتقاد بأن إعادة التعليم لن تتحقق بالقوة من الخارج، وكذلك تقدير واسع للنظام التعليمي الألماني وخاصة التعليم العالي الألماني. تضمنت السياسة البريطانية حظر تدريس جميع الكتب المدرسية الموجودة وإنشاء لجان لاعتماد الكتب المدرسية الجديدة. إلى جانب ذلك، حرص البريطانيون على أن يكون معظم أعضاء اللجان ألمان وأن تكون حضور الأعضاء البريطانيين في اللجان غير معلنة. بالإضافة، تجنب البريطانيون كتابة الكتب المدرسية الجديدة بأنفسهم وتركوا للألمان القيام بذلك، تحت ظل اللجان ومبادئ الرقابة، التي شملت حظر التعليم للعسكرية، القتل، وتمجيد الحرب؛ حظر جميع أشكال العنصرية؛ حظر أي تعاطف مع النازية؛ وغيرها.

 

من ناحية أخرى، اتبع الفرنسيون والأمريكيون سياسة إعادة التعليم بشكل أكثر عدوانية. قام الفرنسيون بتكييف هيكل النظام التعليمي الألماني مع الهيكل الفرنسي وغيروا نظام الامتحانات. على عكس البريطانيين، لم يتركوا مهمة إعادة كتابة المناهج الدراسية والكتب للألمان، بل استوردوا كتب مدرسية باللغة الألمانية من سويسرا المحايدة، ترجموا كتب مدرسية فرنسية إلى الألمانية وأسسوا لجنة تربوية لكتابة مواد تعليمية جديدة – مقرها في باريس.

 

بالإضافة إلى ذلك، بدأ الفرنسيون بتدريب معلمين ألمان، جلبوا معلمين فرنسيين للتدريس والإشراف في المدارس، وأدخلوا أساتذة فرنسيين للعمل في الجامعات الألمانية. كان للمعلمين الفرنسيين دور مزدوج. أولاً، لترسيخ اللغة، الثقافة، والقيم الفرنسية في المدارس والجامعات في ألمانيا، انطلاقًا من الاعتقاد بأن التعرف العميق على فرنسا سوف يقضي على العداء والميل للقتال ضد الفرنسيين. تم تحديد اللغة الفرنسية كلغة ثانية أساسية وتم تدريسها في جميع المدارس. ثانيًا، كان المعلمون الفرنسيون آذانًا وعيونًا للسلطات الاحتلالية الفرنسية، يجمعون معلومات عن مواقف الطلاب والهيئة التدريسية. بالإضافة إلى ذلك، أسس الفرنسيون جامعات جديدة وفقًا للنموذج الفرنسي للتعليم العالي (الذي فضل درجة البكالوريوس العامة على الدرجة المهنية والمتخصصة).

 

آمن الأمريكيون بأن التعليم للديمقراطية يتم اكتسابه من خلال تحويل المدارس نفسها إلى مجتمعات ديمقراطية، حيث يتم تعليم الطلاب أن يكونوا مواطنين نشطين ومشاركين، يمارسون التفكير النقدي ويتحملون المسؤولية عن تعليمهم. أسس الأمريكيون برامج تدريب للمعلمين هدفت إلى تلطيف العلاقة السلطوية التي ميزت التعليم الألماني، كتبوا كتب دراسية جديدة في التاريخ والمواطنة التي أكدت على دور الطلاب كمواطنين نشطين، شجعوا على إنشاء مجالس الطلاب التي تشارك في إدارة المدارس، وأنشأوا برامج تبادل كشفت الطلاب والمعلمين على ثقافات ديمقراطية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

 

تم تطبيق برامج إعادة التعليم أيضًا على أسرى الحرب، الذين تلقوا كتبًا ومحاضرات تهدف إلى غرس قيم الديمقراطية الليبرالية. كانت هذه البرامج تطوعية (على الأقل على الورق) وشجعت السلطات في معسكرات الأسرى الأسرى الألمان على أن يكونوا “مشاركين”، يكتبون صحيفة في السجن، يترجمون النصوص، ويؤسسون مجموعات للنقاش والمناظرة. أصبح بعض الأسرى الذين شاركوا في هذه البرامج شخصيات قيادية في ألمانيا بعد الحرب.

 

الجدول الزمني والتنفيذ: بدأ البريطانيون في التخطيط لمشروع إعادة التعليم في ألمانيا في عام 1943، قبل عامين من نهاية الحرب، وأقنعوا بقية الحلفاء بأن مثل هذه الخطوة على الرغم من أنها طموحة إلا أنها ممكنة وضرورية. انضم الفرنسيون فقط في عام 1944. تم تنفيذ الإصلاحات في فترة زمنية قصيرة فقط لمدة أربع سنوات، 1945-9، حيث عمل مئات الأشخاص المتخصصين في التعليم والثقافة واللغة الألمانية في أقسام التعليم للحلفاء لإدارة الإصلاحات والإشراف على تنفيذها.

 

الدمقرطة – الثقافة والمؤسسات: بالإضافة إلى الإصلاحات التعليمية، سعت الحلفاء إلى تحويل الثقافة السياسية في ألمانيا إلى الديمقراطية. مرة أخرى، برزت الاختلافات بين القوى العظمى. اعتقد الفرنسيون أن الدمقرطة تتطلب تغييرًا ثقافيًا عميقًا، يتضمن القضاء على الأسس السلطوية والعنيفة من الثقافة الألمانية وترسيخ ثقافة ديمقراطية تعددية في الأدب، الفنون، الإعلام (خاصة الراديو في تلك الأيام)، المعارض، وبالطبع في النظام التعليمي. كان النموذج للثقافة الديمقراطية، في نظر الفرنسيين، هو فرنسا نفسها، وأغمروا الألمان، حتى خارج منطقة الاحتلال الفرنسي، بالثقافة الفرنسية في أبهى صورها: أرسلت الأوركسترات الفرنسية الرائدة والمسارح الرائدة في جولات في جميع أنحاء ألمانيا، قدم المحاضرون المشهورون محاضرات في الفلسفة الفرنسية والفكر السياسي، والمزيد. في سنة واحدة – 1946 – قدم الفرنسيون أكثر من 500 حدث ثقافي لجمهور إجمالي يبلغ حوالي 600,000 ألماني. بالإضافة إلى ذلك، أسس الفرنسيون مجلات، أنشأوا احتفالات ومهرجانات في المجال العام، وأطلقوا معارض ضخمة صورت التاريخ الفرنسي-الألماني من وجهة النظر الفرنسية، والتي أبرزت القوى الفرنسية والمشترك بين الشعبين. كان مشروعًا رئيسيًا آخر هو ترجمة وتوزيع الأدب الفرنسي، خاصة ذلك الذي يروج للأفكار الإنسانية والديمقراطية ويعارض العسكرية. تم تقديم دروس اللغة الفرنسية على الراديو أسبوعيًا وتم عرض دورات اللغة الفرنسية للجمهور. يجب ملاحظة أن البريطانيين والأمريكيين أيضًا جلبوا أحداثًا ثقافية إلى ألمانيا، بما في ذلك العروض، الكتب، والسينما، ولكن ليس بهدف تعزيز الدمقرطة ولكن بهدف الربح الاقتصادي.

 

لاحظ البريطانيون والأمريكيون أن مشكلة الديمقراطية في ألمانيا لم تكن في الثقافة الألمانية، ولكن في ضعف المؤسسات في جمهورية فايمار. ركزت جهودهم في الدمقرطة على تقوية واستقرار المؤسسات في ألمانيا وتشكيلها وفقًا للمؤسسات الأنجلوسكسونية. هكذا، دفع البريطانيون بإصلاحات في الحكم المحلي شملت الفصل بين الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية، تقصير مدة ولاية المسؤولين المنتخبين من أربع إلى ثلاث سنوات، تغيير نظام الانتخابات من نسبي إلى غالبية (بحيث بدلاً من قوائم المرشحين يصوت الجمهور للمرشحين الأفراد)، ومحاولة لإعادة بناء الخدمة المدنية (civil service) وفقًا للنموذج البريطاني، بحيث تكون مهنية، موزعة على المستوى المحلي، وغير سياسية.

 

بالإضافة إلى ذلك، أحدث البريطانيون والأمريكيون إصلاحات في سوق الإعلام، كجزء من التعامل مع المؤسسات الديمقراطية. كان مطلوبًا من الصحف الحصول على ترخيص، مشروط بالامتثال لمتطلبات مختلفة من المهنية وعدم التحيز السياسي. من بين أمور أخرى، لم يكن بإمكان الأفراد الحصول على ترخيص لإصدار صحيفة، بل فقط مجموعات تضم ما لا يقل عن ثلاثة محررين يمثلون آراء سياسية متنوعة. كان الهدف هو نزع الطابع السياسي عن الصحافة وإنشاء نموذج صحافة محايدة ومتوازنة. معظم هذه الإصلاحات لم تصمد الانتقال من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال غير المباشر، ولكن بعض المعايير المهنية وعدم التحيز في التقارير، مثل الفصل بين الحقائق والرأي، تسربت إلى وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية.

 

إعادة إطلاق الحكم الديمقراطي وكتابة دستور: أُعيد بناء المؤسسات الديمقراطية نفسها في ألمانيا من الأسفل إلى الأعلى. في السنوات الأولى، أُجريت الانتخابات فقط على مستوى السلطات المحلية. خلال عام 1947، أُجريت الانتخابات لأول مرة لبرلمانات الولايات المكونة لألمانيا الغربية. في صيف عام 1948، أُنشئت لجنة تتكون من خبراء وموظفي دولة ألمان بهدف صياغة مسودة قانون أساسي – دستور مؤقت – لألمانيا. قُدمت المسودة أمام جمعية تأسيسية تتألف من ممثلين عن برلمانات الولايات. بعد الموافقة على القانون الأساسي من قبل الجمعية ومن قبل القوى العظمى، أُجريت الانتخابات الفيدرالية الأولى في عام 1949. أنشأت هذه الانتخابات من جديد حكومة وطنية بالشكل المحدد في القانون الأساسي، وأشارت إلى نهاية مرحلة الاحتلال المباشر.

 

إعادة بناء النظام البيروقراطي والسياسي: مع بداية الحرب الباردة، قررت القوى الغربية أنه يجب كسب قلوب الشعب الألماني في الصراع ضد الكتلة الشيوعية، ولذلك بدأوا بتخفيف العقوبات على مجرمي الحرب وأولئك الذين تم تصنيفهم كنازيين في إطار إزالة النازية. توقفت محاكمات مجرمي الحرب العديدة، ومنح العديد من المحكومين – حتى المجرمين “الكبار” – عفواً. كما توقفت إجراءات إزالة النازية في معظم الحالات. اكتشف قادة الاحتلال بسرعة أنه لا يمكن إدارة دولة حديثة ومعقدة مثل ألمانيا، وبالتأكيد لا يمكن إعادة بناء اقتصادها وجعلها حليفًا استراتيجيًا في الحرب الباردة، دون الاعتماد على الأشخاص الذين يعرفون كيفية إدارتها بالفعل، أي – هؤلاء “التكنوقراط” والمسؤولين الذين أداروها خلال فترة الحكم النازي. ولذلك، عاد العديد من المسؤولين النازيين، بما في ذلك مجرمي الحرب، إلى مناصب مماثلة لتلك التي شغلوها تحت الرايخ الثالث. كان هذا بارزًا بشكل خاص في الشرطة الجنائية، التي كانت مليئة بأعضاء سابقين في الجستابو؛ في الخدمة الخارجية، التي وظفت العديد من الدبلوماسيين من وزارة الخارجية النازية القديمة؛ في الجيش الجديد، الذي ضم جنرالات من الفيرماخت؛ وفي جهاز الاستخبارات الخارجية، الذي أصبح ملاذًا للنازيين السابقين من مختلف الأنواع. بشكل ساخر، كانت الاستعداد لاستقبال التكنوقراط الذين خدموا النظام النازي، على الرغم من أنه عادةً ليس الأشخاص من الطبقة القيادية الأعلى، أحد مفاتيح نجاح احتلال القوى العظمى لألمانيا. كان هذا مشابهًا للوضع في اليابان، وبخلاف الوضع في العراق بعد عام 2003، حيث تسبب فصل جميع الموظفين الذين كانوا مرتبطين بنظام صدام حسين في انهيار الدولة فعليًا (كما سنرى لاحقًا). بالإضافة إلى ذلك، استندت بنية البيروقراطية الجديدة إلى حد كبير على التقاليد الغنية التي سبقت النازية، والتي تضمنت مزيجًا من حكومة مركزية قوية وحازمة، ولكن محدودة الصلاحيات، مع خدمة مدنية مهنية، وكذلك استقلالية إقليمية واسعة للولايات المختلفة مقابل الحكومة الفيدرالية.

 

الخلاصة – لماذا نجح التحول في ألمانيا؟ وجود النازيين السابقين في مناصب رئيسية في ألمانيا الغربية جعل العديد من المراقبين يخشون أن يعود النظام النازي للحياة عاجلاً أم آجلاً، ولكن لم يكن الأمر كذلك. في الواقع، الغالبية العظمى من هؤلاء المسؤولين النازيين السابقين أداروا سياسات ليبرالية ديمقراطية، وليس نازية؛ كما أن الغالبية العظمى من أنصار وأعضاء الحزب النازي السابقين (ملايين الأشخاص) فضلوا إلى حد كبير التصويت للأحزاب السائدة الليبرالية وليس للأحزاب النيو-نازية أو اليمينية المتطرفة. أي أن الفكرة النازية أصبحت هامشية في ألمانيا الجديدة على الرغم من وجود نازيين سابقين في مناصب رئيسية، وعلى الرغم من أن ملايين من أنصار هتلر ما زالوا يسكنون البلاد، وعلى الرغم من فشل إزالة النازية نسبيًا. عدة أسباب رئيسية ساهمت في هذا النجاح:

 

أ. الهزيمة المطلقة في عام 1945، التي أظهرت حتى لأنصار هتلر أن النظام النازي فشل بشكل واضح، مطلق ومؤكد.

 

ب. إعادة الإعمار الاقتصادي السريع لألمانيا، الذي أُتيح جزئيًا بفضل البراغماتية للقوى العظمى والاستعداد لتوظيف العديد من النازيين السابقين في الخدمة المدنية، ولكن أيضًا بفضل الأسس الاقتصادية والصناعية القوية لألمانيا.

 

ج. السياق الاستراتيجي الجديد: الألمان تمكنوا من الاندماج في الواقع ما بعد النازية، وإخبار أنفسهم بقصة معقولة تفيد بأنهم أعضاء في تحالف جديد، غربي ومعاد للشيوعية. نظرًا لأن معاداة الشيوعية كانت جزءًا مركزيًا من الأيديولوجية النازية وكانت مقبولة جدًا في ألمانيا في فترة الحرب، تمكن النازيون السابقون من الاحتفاظ بجزء مركزي من رؤيتهم العالمية السابقة وإلقاء الباقي، وهكذا خلقوا شعورًا بالاستمرارية. كانت هذه الاستمرارية، كما ذكر، جزءًا مركزيًا أيضًا من الإصلاحات التعليمية والثقافية التي نفذتها القوى العظمى، التي سعت لإظهار للألمان أن لديهم أسسًا مشتركة واسعة مع الغرب. القدرة على سرد قصة ألمانية إيجابية، مع الحفاظ على عناصر مركزية ومختارة من العالم القديم، سمحت لألمانيا بتغيير مسارها دون أن تعاني من فقدان الهوية.

 

د. أفق إيجابي لألمانيا: كان الألمان مستعدين لقبول الاحتلال، العقوبات، والإصلاحات التي فرضتها القوى العظمى لأن هدفًا إيجابيًا واضحًا وقابلًا للتحقيق كان موضوعًا على الطاولة، وهو إحياء السيادة الألمانية في نهاية العملية وقبول ألمانيا من جديد في مجتمع الأمم. استمرت العملية نفسها لعقد من الزمن، على مرحلتين – احتلال مباشر (أربع سنوات) واحتلال غير مباشر (ستة)، ولكن الأفق الإيجابي وُضع كهدف في مرحلة مبكرة نسبيًا.

 

في رأينا، الدروس الرئيسية من القصة الألمانية ليوم ما بعد حماس في غزة هي:

 

الحاجة إلى هزيمة عسكرية كاملة، واضحة ومؤكدة، لكي يدرك حتى أنصار حماس أن مسارها فشل.

 

خطوات رمزية مثل محاكمة مجرمي الحرب وتدمير رموز النظام القديم، لتوضيح أن النظام القديم قد انتهى. ومع ذلك، يجب توخي الحذر من توسعة المحاكمات بشكل مفرط، بحيث لا يشعر المواطن العادي بأنه مهدد.

 

البراغماتية والاستعداد للتعاون مع التكنوقراط من النظام القديم، مع القضاء على وتطهير النظام من طبقات القيادة والطبقات الأيديولوجية الأكثر إشكالية.

 

الإصلاحات التعليمية التي تشمل على الأقل: تطهير النظام من طبقة من المعلمين المتطرفين بشكل خاص؛ منع الكتب الدراسية الحالية، وتطوير محلي للكتب الدراسية المتسامحة التي تخلق سردًا غزيًا متواصلاً، ولكنه غير عنيف (في المرحلة الانتقالية، يمكن تدريس المواد الأساسية باستخدام الكتب الدراسية من الإمارات، على غرار النموذج الفرنسي في ألمانيا الغربية المحتلة).

 

دمج قطاع غزة (وربما، في الظروف المناسبة، السلطة الفلسطينية ككل) في تشكيل استراتيجي جديد، يمزج بين عناصر رئيسية من العالم القديم. في حالتنا، يجب أن يستند هذا التشكيل إلى القيم العربية والإسلامية، ولكن في سرد غير حمساوي. هنا، قد يكون التعاون من المملكة العربية السعودية ودول الخليج أمرًا حاسمًا في دمج غزة في محور جيوسياسي عربي-سني معتدل، يسعى إلى صد الإمبريالية الإيرانية-الشيعية والإصدارات الجهادية من الإسلام السني. يمكن التعاون أيضًا مع مصر للحفاظ على مكانتها وكرامتها كشريك رئيسي. يجب التفكير في إبعاد قطر إلى أقصى حد ممكن. يجب أن يشعر المواطن الغزي في اليوم التالي، مثل المواطن الألماني في عام 1949، بأنه جزء من قصة مألوفة، جزء من ائتلاف عربي-سني، يسمح له بوضع طريق حماس والجهاد خلفه.

 

صناعة أفق إيجابي للاستقلال (حتى لو كان محدودًا من الناحية الأمنية والسياسية، كما كان في ألمانيا)، الذي يعتمد على نجاح تجربة إعادة الإعمار.

 

صناعة الظروف لإعادة الإعمار الاقتصادي والإنساني بسرعة قدر الإمكان. ومع ذلك، قد تكون هذه العملية صعبة ومعقدة أكثر من العملية في ألمانيا، نظرًا لندرة البنى التحتية الاقتصادية المتطورة في غزة قبل الحرب.

 

  • أ 2. اليابان

اليابان هي قصة النجاح الثانية للاحتلال الأجنبي التحويلي، وبالتالي تتطلب أيضًا تحليلًا عميقًا. يشبه احتلال اليابان من قبل الحلفاء (1945-1952) احتلال ألمانيا من نواحٍ عديدة، ولكنه يختلف أيضًا في نواحٍ ذات صلة بموضوعنا. نبدأ بالاختلاف، ثم نتابع بالتشابه. النقاط الرئيسية للاختلاف هي:

 

 الاستمرارية الحكومية: على عكس ألمانيا، التي دُمر نظامها بالكامل في عام 1945، استمرت حكومة اليابان في السيطرة على البلاد حتى بعد استسلامها غير المشروط للحلفاء. تم تنفيذ هذه السيطرة تحت نظام الاحتلال، لكن الاستمرارية الحكومية لم تتوقف. الأشخاص الذين كانوا في الحكومة أو شغلوا مناصب رئيسية أثناء الحرب تم اعتقالهم ومحاكمتهم، لكن السياسيين من الصف الثاني خلفوهم. لذلك، في اليابان كان الاحتلال غير مباشر من البداية، وتم تنفيذ أوامره من قبل الحكومة اليابانية. بجانب ذلك، احتفظت سلطة الاحتلال بالحق في التدخل في أي وقت وفرض حق الفيتو على قرارات الحكومة اليابانية، واستخدمت هذا الحق من حين لآخر. كانت المسؤولية الأمنية والسياسة الخارجية بيد سلطات الاحتلال فقط.

 

 الإمبراطور: اعتُبر الإمبراطور الياباني شخصية مقدسة ورمزية، مقبولة من الشعب كله. بعد الاستسلام، قرر الأمريكيون إبقاءه على عرشه. قدم هذا القرار شرعية لنظام الاحتلال في نظر الشعب الياباني، وهو مثال فريد من نوعه حسب معرفتنا في أي احتلال تحويلي آخر: القديم منح شرعية للجديد.

 

وحدة الحكم في الاحتلال: على عكس ألمانيا الغربية، التي تم تقسيمها في الفترة الأولى من الاحتلال وتم إدارتها بشكل مشترك من قبل ائتلاف، حكم الأمريكيون اليابان بمفردهم، مما جعل سياسة الاحتلال تُدار بشكل أكثر تنسيقًا وتركيزًا مقارنة بألمانيا.

 

ساعدت الخصائص الثلاثة المذكورة أعلاه، الفريدة للحالة اليابانية، سلطة الاحتلال الأمريكية على إدارة سلسلة من عمليات التغيير الناجحة التي كانت مشابهة بشكل أساسي لألمانيا، ولكنها كانت أكثر تطرفًا:

 

هزيمة مطلقة وواضحة مثل حالة ألمانيا، على الرغم من أن اليابان احتفظت بحكومتها وإمبراطورها كما ذكر.

 

غياب المقاومة المسلحة من أي نوع نتيجة للهزيمة المطلقة والتأكيد الذي قدمه الإمبراطور لنظام الاحتلال. ساهم في ذلك أيضًا حقيقة أن اليابانيين فوجئوا بشكل إيجابي من الأمريكيين – فقد توقعوا، نظرًا لوحشية اليابانيين أنفسهم في الحرب، الكراهية التي تطورت في الولايات المتحدة، والقنابل الذرية والحارقة، أن يعذبهم الأمريكيون ويعاقبوهم كقوة احتلال. لم يكن الأمر كذلك، كما أن الشهية للمقاومة هدأت نتيجة لذلك. غياب المقاومة وفر للأمريكيين خطوات قمعية كانت ستجعلهم مكروهين من قبل السكان وأتاح لهم تنفيذ الإصلاحات بسلاسة ودون معارضة. على الرغم من أن الأمريكيين أعدموا أيضًا ضباطًا وجنودًا عاديين (خاصة الحراس في معسكرات الأسرى) أكثر بكثير مما حدث في ألمانيا، إلا أن هذه المحاكمات غالبًا ما جرت خارج اليابان، وبسبب الرقابة التي فرضتها سلطات الاحتلال، بالكاد سمع الجمهور عنها. سمع الجمهور الياباني عن “محاكمات طوكيو” التي أُجريت للقادة البارزين في النظام السابق، لكنهم قبلوها بمعظمهم بتفهم (على الرغم من الشكوك حول ما يعتبر “عدالة الفائزين”) لأن الرأي السائد كان أن قادة النظام السابق كان يجب عليهم الانتحار على أي حال بسبب الكارثة التي جلبوها على الأمة.

 

 الإصلاحات في التعليم: قام الأمريكيون بإصلاحات واسعة في نظام التعليم. تم تطهير الكتب المدرسية من كل أثر لما كان يُعتبر “إقطاعية”، “قوموية” أو “عسكرية”، وفي المرحلة الأولى كان على الطلاب أن يمارسوا الرقابة على الكتب المدرسية بأنفسهم. ومع ذلك، لم يكن السرد الذي نقلته الولايات المتحدة إلى الجيل الياباني الشاب (من خلال وزارة التعليم اليابانية) منفصلًا تمامًا عن الأيديولوجية الإمبراطورية الماضية. كانت الاستراتيجية هي إلقاء اللوم على الجيش والبحرية، الذين تم تفكيكهم، في خداع الشعب والإمبراطور. اليابان الجديدة، كما سمع الطلاب في نظام التعليم، ستكون دولة ديمقراطية، مسالمة وليبرالية، تحافظ على الملكية الإمبراطورية. هنا أيضًا، كما في ألمانيا، تم دمج اليابانيين في سياق سياسي دولي جديد من الحرب على الشيوعية. كانت الاستراتيجية هي القضاء على جانب معين من الماضي (العسكرية) وفي نفس الوقت الحفاظ على وتعزيز جانب آخر مهم (الإمبراطور)، مع إعادة دمج اليابان في أسرة الأمم، حتى لا يكون التحول الهوياتي مؤلمًا للغاية. أتاحت الاستمرارية (الجزئية) التحول الاجتماعي.

 

نزع السلاح كان عملية موازية لإزالة النازية في ألمانيا. قام الأمريكيون بتطهير شخصيات معينة يُنظر إليها على أنها مسؤولة عن العسكرية اليابانية وجرائمها، وفككوا الجيش والبحرية بالكامل، بما في ذلك عدم دفع المعاشات العسكرية. من المهم ملاحظة أن هذه الخطوات المؤلمة قُبلت بتفهم من الجمهور، سواء لأن الكثيرين ألقوا باللوم على الجيش والبحرية في كارثة الحرب، أو لأن الإمبراطور، الذي ظل في منصبه، منحهم الموافقة. على عكس ألمانيا، حيث كان من الممكن إلقاء اللوم على قوات مثل قوات الأمن الخاصة، كان الجيش في اليابان هو المسؤول الرئيسي عن الكارثة، ولذلك اكتسبت الدولة الجديدة طابعًا سلميًا.

 

محاكمات مجرمي الحرب: أجرى الأمريكيون محاكمات لقادة النظام القديم (محاكمات طوكيو)، بما في ذلك رؤساء الوزراء، وزراء الجيش، رؤساء الأركان، ومستشارين كبار للإمبراطور، ولكن ليس الإمبراطور نفسه أو أفراد عائلته المقربين. تم تصميم هذه المحاكمات لتعزيز السرد القائل بأن الجيش والبحرية خدعوا كلاً من الشعب والإمبراطور.

 

كتابة دستور جديد: كتب الأمريكيون دستورًا جديدًا بالكامل لليابان، ذو طابع ديمقراطي، ليبرالي وسلمي، تضمن حقوق الإنسان والمواطن التي لم تكن موجودة حتى في الدستور الأمريكي. على الرغم من أن معظم اليابانيين كانوا يدركون تمامًا أن هذا دستور فُرض من قبل أجانب، إلا أنه تم قبوله رسميًا كتعديل للدستور القائم، ومرة أخرى – منح الإمبراطور الموافقة، ويُعتبر اليوم مقدسًا في اليابان. هذه مثال آخر على كيفية أن الحفاظ على مؤسسة قديمة أصبح أساسًا لإصلاحات جذرية.

 

الأمن الداخلي: على عكس ألمانيا، لم يتم تفكيك الشرطة اليابانية واستمرت في العمل تحت حكم الاحتلال (بدلاً من وزارة الداخلية القوية في زمن الحرب، التي ألغيت في عام 1947). اكتفى الأمريكيون بتفكيك قوات الشرطة الخاصة التي تم تحديدها مع الديكتاتورية الحربية، مثل “الشرطة العليا الخاصة”، الشرطة الأيديولوجية وخاصة الشرطة العسكرية الشهيرة  (KEMPEITAI)  التي كانت المكافئ الياباني للجستابو النازي. في المقابل، استمرت الشرطة الزرقاء في العمل دون انقطاع، ولكن تم تطهيرها من الضباط الذين كانوا مرتبطين باضطهاد المعارضين السياسيين خلال زمن الحرب وتم تنفيذ إصلاحات ديمقراطية تدريجية فيها. كما هو الحال في ألمانيا، كان التركيز على منح السلطات لقوات الشرطة المحلية، لتقليل قدرة الأشخاص المرتبطين بالنظام القديم على إعادة تشغيل شبكة الشرطة القديمة من المقر الرئيسي في طوكيو.

 

 الحفاظ على الطبقة الثانية والثالثة من النظام القديم: كما في ألمانيا، فهم الأمريكيون أن اليابانيين يجب أن يديروا اليابان. لم تتكون الحكومات المختلفة، التي بدأت تُنتخب في انتخابات ديمقراطية بعد الحرب بوقت قصير، من معارضي النظام فقط (على الرغم من وجود بعضهم) بل من سياسيين وإداريين متمرسين من الطبقة الثانية والثالثة للنظام القديم، في بعض الأحيان وزراء في الحكومات العسكرية، وفي بعض الأحيان سياسيين تم تهميشهم من قبل الجيش في العشرينيات والثلاثينيات لأنهم كانوا يُعتبرون ليبراليين نسبيًا في ذلك الوقت. مع بداية الحرب الباردة، بدأ الأمريكيون في منح العفو لمزيد من الشخصيات الرئيسية من النظام القديم، لتمكين اليابان بسرعة من الوقوف على قدميها كحليف مضاد للشيوعية للولايات المتحدة. بمعنى آخر، كما في ألمانيا، كان هناك مزيج من الإصرار على معاقبة وتطهير كبار المسؤولين من النظام القديم، مع براغماتية ملحوظة تجاه الأشخاص الذين لم ينتموا إلى الطبقة العليا من القيادة.

 

مساعدة اقتصادية سخية: كما في ألمانيا، تلقت اليابان مساعدة اقتصادية سخية من الولايات المتحدة، بما في ذلك ملايين الأطنان من القمح، وهي مساعدة أنقذت على الأرجح ملايين اليابانيين من الموت جوعًا. يجب ملاحظة أنه كما في ألمانيا، استندت الديمقراطية في اليابان إلى إعادة الإعمار الاقتصادي السريعة النسبية للبلاد. تم تحقيق ذلك بفضل بنية تحتية اقتصادية/صناعية/تكنولوجية سابقة، بفضل سكان متعلمين، وبفضل مستشارين أمريكيين ذوي كفاءة تمكنوا من ترسيخ تقنيات وأساليب إدارة جديدة لليابانيين من الولايات المتحدة التي اندمجت مع أساليب إدارة يابانية محلية.

 

الدروس الرئيسية من اليابان “لليوم التالي” في غزة تشبه إلى حد كبير الدروس المستفادة من ألمانيا (مع بعض التعديلات الموضحة أدناه):

 

 يعتمد إعادة الإعمار الناجح على الهزيمة الكاملة للنظام القديم.

 

 يتطلب إعادة الإعمار مزيجًا من البراغماتية فيما يتعلق بالتعاون مع شخصيات من النظام السابق، جنبًا إلى جنب مع اقتلاع صارم للأشخاص الذين يُعرفون به بشكل مفرط. العلنية مهمة لاستيعاب التغيير في الجمهور؛ كما في اليابان، يجب التأكيد على كيفية أن النظام السابق (وفي حالة حماس، أيضًا القيادة في الخارج) خدع الجمهور وقاده إلى الخراب. يمكن أن يشمل عملية الاقتلاع أيضًا وقف دفع الرواتب للإرهابيين (كما هو الحال في وقف دفع المعاشات العسكرية في اليابان).

 

يمكن للإصلاحات التعليمية، الثقافية والسياسية تغيير المواقف السائدة حتى في السكان الذين يتميزون بثقافة الموت والتضحية التي لا تبعد كثيرًا عن تلك الموجودة في غزة (بما في ذلك الهجمات الانتحارية، التعذيب، الانتهاكات الجنسية وغيرها). تغيرت هذه الثقافة بشكل جذري بعد الإصلاحات الأمريكية. كانت بعض الإصلاحات مشابهة لتلك التي اتخذت في ألمانيا، وتم تمكينها بفضل مبادئ مماثلة – على سبيل المثال ترسيخها في الاستمرارية الثقافية. لكن يجب التأكيد على أن الإصلاحات التي نُفذت في اليابان كانت أكثر جذرية، وكانت التغيرات التي مرت بها اليابان أكثر حدة، وقد تم تمكينها بفضل الجمع بين الهزيمة الكاملة والاحتفاظ برمز قوي (الإمبراطور). بدون رمز كهذا، الذي يمكن أن يوفر دعمًا عامًا وشرعية للتغييرات، يصعب تنفيذ تغييرات جذرية مثل تلك التي نفذها الأمريكيون في اليابان (مثل فرض دستور جديد، حظر الأعياد الوطنية “العسكرية”، حظر رفع العلم وتشغيل النشيد الوطني). حاول الأمريكيون تنفيذ تغييرات مماثلة في العراق دون الدعم “الإمبراطوري” وكانت النتيجة انهيارًا تامًا للدولة (انظر أدناه). في غزة، لا يوجد رمز مشابه للإمبراطور يمكن الحفاظ على حكمه والحصول من خلاله على شرعية مماثلة.

 

تعتبر المساعدة الإنسانية السخية التي تنقذ من الجوع والأوبئة ضرورية للإعادة البناء الاجتماعي والسياسي، جنبًا إلى جنب مع بناء بنية تحتية للاستقلال الاقتصادي على المدى الطويل. يجب توفير صنارات، وليس فقط أسماك. كما ذكرنا في حالة ألمانيا. يجب الافتراض أن هذه المهمة – على الأقل بمعنى بناء بنية تحتية للاستقلال الاقتصادي على المدى الطويل – ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا في حالة غزة.

 

كما في الحالة الألمانية، فإن المثال الياباني يعلمنا أيضًا أهمية سرد وطني وتشكيل جيوسياسي جديدين (الحرب الباردة، الكفاح ضد الشيوعية) ليسا منفصلين تمامًا عن العالم القديم. يوفر هذا التشكيل، المعتمد على الرموز والقيم المهمة للجمهور، شرعية للإصلاحات الداخلية ويمنح الأمة المهزومة أفقًا إيجابيًا يشجع التعاون مع الإصلاحات.

 

أ 3. العراق

الهدف المعلن للأمريكيين في حرب الخليج الثانية كان استعادة النجاح الذي تحقق في ألمانيا واليابان وتحويل العراق إلى دولة ديمقراطية حديثة. فشل هذا الجهد، على الرغم من الاستثمار الهائل للمال والوقت (مليارات الدولارات، بين عامي 2003-2011 والقوات العسكرية (مئات الآلاف من الجنود). يُشار عادةً إلى مجموعة من الأسباب لفشل الأمريكيين في تحويل العراق:

 

إزالة البعثية وحل الجيش: كان أحد الأخطاء الكبيرة التي ارتكبت في العراق، فور بدء الاحتلال الأمريكي، هو أمر إزالة البعثية الذي أصدره الحاكم بول بريمر. في محاولة متعمدة لتقليد الإصلاحات في اليابان وألمانيا، “طهر” بريمر من آليات الحكومة جميع من شغلوا مناصب معينة في تنظيمات حزب البعث وقرر حل الجيش العراقي، الذي كان بحاجة إلى إعادة البناء. كان هذا خطأً كبيرًا في تطبيق الدروس. أولاً، على عكس ألمانيا واليابان، لم يقاوم الجيش الأمريكي ولم يقاتل ضد الولايات المتحدة – استسلم دون قتال، وتشتتت أجزاؤه، وكان مستعدًا للتعاون مع الاحتلال. ثانيًا، على عكس اليابان، لم يكن لدى بريمر شخصية توافقية مثل الإمبراطور لتضفي الشرعية على التحرك. رأى الكثيرون في الجيش العراقي، الذي خدم فيه أبناء جميع الطوائف، رمزًا موحدًا. على الرغم من أن الجيش كان جزءًا من نظام القمع لصدام حسين وكان بعض الأقليات في العراق يريدون تفكيكه، إلا أن تفكيكه أثر على أجزاء كبيرة من الجمهور وبالتالي أيضًا على شرعية الاحتلال الأمريكي. ثالثًا، على عكس كل من ألمانيا واليابان، لم يدرك بريمر أنه من الضروري الحفاظ على الطبقة الإدارية المتوسطة والعليا حتى يمكن إدارة الدولة.

 

كانت النتيجة لهذه الخطوات صعبة: تفكيك الجيش أطلق مئات الآلاف من العاطلين عن العمل المسلحين في الشوارع، مما أثار التمرد ضد القوات الأمريكية، وتسريح الموظفين الكبار فكك الإدارة العراقية وأحدث فوضى حكومية وصراعًا طائفيًا. اعتقد الأمريكيون أن المنفيين السياسيين (معظمهم من الشيعة)، الذين عاشوا لسنوات خارج العراق، سينجحون في إدارته بمساعدة قوات الاحتلال. في ألمانيا، نظرت القوى العظمى ورفضت هذا الاحتمال، واتضح أنه كان وهمًا خطيرًا في العراق.

 

إلى جانب ذلك، لم تستوعب الولايات المتحدة، طوال سنوات الاحتلال، تداعيات الصراع الطائفي على نجاح إعادة بناء العراق. أولاً، قام الأمريكيون بتعيين معارضي صدام حسين في الآليات الحكومية المركزية، دون فهم أن كونهم شيعة سيؤدي إلى أن ترى السكان السنية تغيير الحكم، وكذلك محاولات الاحتلال والحكومة لنزع السلاح من المجتمع المدني السني، على أنها تخلي عنهم للموت من قبل خصومهم الطائفيين. ثانيًا، زادت الأعمال الأمريكية لتعزيز الحكومة المركزية – بناءً على اعتقاد بأن حكومة قوية ستخلق دولة قوية – من التمرد السني ضد الحكومة (الشيعية) والاحتلال الأمريكي. ثالثًا، لم يراع التصميم الحكومي للعراق، بدءًا من كتابة الدستور وما بعدها، التوترات الطائفية وتجاهل أجراس الإنذار التي كانت تقرع على طول الطريق. ظهرت التوترات الطائفية حتى أثناء كتابة الدستور، عندما أعربت الفصائل السنية المهمة عن تحفظاتها من البنية الفيدرالية المتشكلة بسبب خشيتها من أنها ستمنح قوة أكبر للشيعة والأكراد على حسابهم، خاصة لأن المناطق السنية تحتوي على موارد طبيعية أقل. أدت الخلافات إلى أن بعض الفصائل السنية انسحبت من الجمعية التأسيسية وقاطعت كتابة الدستور. على الرغم من أن الدستور أُقر بأغلبية كبيرة (%78)، وبنسبة مشاركة 63% من الناخبين، إلا أن الدعم له انقسم على أسس إقليمية وإثنية. في المناطق الكردية والشيعية، حصل الدستور على دعم واسع، وفي المناطق ذات الأغلبية السنية كانت هناك معارضة كبيرة للدستور. في الانتخابات المقبلة في عامي 2005 و2010، بقي السنة أقلية، على الرغم من أنهم حصلوا على مقعد في الائتلاف ومناصب رئيسية في 2005. في عام 2010، كانت الانتخابات متقاربة وبقي الأمريكيون “على الهامش”. في النهاية، تشكلت حكومة ذات أغلبية شيعية، وانفجرت التوترات الطائفية بكامل قوتها بعد مغادرة الولايات المتحدة.

 

عدم السيطرة على الحدود: على الرغم من أن الأمريكيين أرسلوا مئات الآلاف من الجنود إلى العراق، إلا أنهم لم يدركوا تمامًا التحدي الأمني الذي واجهوه. على وجه الخصوص، لم يؤمن الأمريكيون حدود العراق بعد تفكيك الجيش العراقي، الذي كان يؤمن الحدود سابقًا. كانت النتيجة تدفق مستمر من الجهاديين والمقاتلين الأجانب، الذين دخلوا دون عائق من حدود الدولة الطويلة والصحراوية وقادوا إلى صعود القاعدة، ولاحقًا داعش. حتى بعد أن أدرك الأمريكيون أنهم بحاجة إلى تأمين الحدود، كان عدد القوات الأمريكية صغيرًا جدًا للقيام بالمهمة، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك جيش عراقي يمكن الاعتماد عليه.

 

 قمع عنيف للسكان المدنيين: أدى تفكيك الجيش وإزالة البعثية إلى إثارة الجمهور وزيادة المعارضة العنيفة، بمساعدة العاطلين المسلحين والجهاديين الذين دخلوا البلاد دون عوائق. كانت الاستراتيجية العسكرية للأمريكيين في الرد على ذلك عنيفة في السنوات الأولى، وأثرت بشكل واسع على السكان المدنيين (المعارك في الفلوجة ومحافظة الأنبار بأكملها تمثل هذه الفترة). زاد القمع العنيف من الكراهية والعداء تجاه الأمريكيين، قوض السيطرة المحلية للعشائر القوية، وقاد إلى زعزعة الاستقرار في البلاد. اعتقد العديد من العراقيين الذين ظنوا في البداية أن الاحتلال سيكون قصيرًا ومنخفضًا، أنه كان احتلالًا “ثقيلًا”، مكثفًا ومهينًا، يؤثر على حياتهم اليومية.

 

 صعود القاعدة وداعش: نتيجة لذلك، تطور في العراق تمرد مسلح من قبل مجموعات عديدة. الأكثر هيمنة كانت القاعدة، التي أصبحت فيما بعد “الدولة الإسلامية في العراق”، التي تطورت بدورها إلى داعش. تحت قيادة الديناميكية لأبو مصعب الزرقاوي، مجرم جنسي أردني تائب أصبح قائدًا إرهابيًا بارزًا، أججت القاعدة الصراع الطائفي في البلاد. نفذ رجالها تفجيرات استشهادية في المراكز الشيعية، بما في ذلك مواقع العبادة الهامة، لإجبار الشيعة على الانتقام من السنة ودفعهم إلى أحضان القاعدة. ساعدت هذه الأعمال في تحويل التمرد المستمر ضد الاحتلال الأمريكي إلى حرب أهلية طائفية شاملة.

 

“احتلال القلوب” وإعادة إعمار العراق في المرحلة الثانية من الاحتلال (من 2007 فصاعدًا)،

بعد فشل السنوات الأولى، تبنت الولايات المتحدة استراتيجية مكافحة التمرد (COIN) التي تقوم على نموذج دائري من “التطهير-الاحتفاظ-إعادة البناء-النقل”. أولاً، يتم تطهير المنطقة باستخدام قوات كبيرة لمنع وجود العدو العلني. في نهاية مرحلة التطهير، من المفترض أن يشعر السكان بالأمان لتقديم المعلومات الاستخبارية إلى القوات المحتلة دون خوف من أن تضرهم حرب العصابات. في المرحلة الثانية، يجب الاحتفاظ بالمنطقة باستخدام قوات كبيرة، تبقى بين السكان (رغم الخسائر الثقيلة التي تسببها هجمات العصابات)، لحماية المخبرين وبث القوة (في السابق، كان الجيش الأمريكي يقيم فقط في قواعد محصنة ويتحرك في قوافل ثقيلة ومؤمنة). المعلومات الاستخبارية التي تتدفق من وجود القوات في الميدان ستساعد في القضاء تدريجياً على نشاط العصابات السري. ثالثًا، عندما يتحسن الوضع الأمني وتضعف تأثيرات العصابات، يجب البدء في إعادة بناء المنطقة “لاحتلال قلوب” السكان. في المرحلة الرابعة والأخيرة، يجب نقل المنطقة إلى سلطة محلية، في هذه الحالة الحكومة العراقية.

.

حتى وفقًا لمهندسيها، تتطلب استراتيجية COIN قوات كبيرة، واستعدادًا لتحمل الخسائر، وضبط النفس المستمر تجاه السكان المحليين. كانت الاستراتيجية مكلفة جدًا من حيث أرواح الجنود، لكنها نجحت في تقليل الخسائر بين المدنيين بشكل كبير وتوليد تعاون فعال مع القبائل المحلية التي عارضت القاعدة (وسميت باسم “حركة الصحوة”).

 

هذه الإنجازات انهارت في عام 2011، عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق. عشية الانسحاب، في عام 2010، جرت انتخابات لتشكيل الحكومة انتهت دون حسم واضح وتتطلبت مفاوضات ائتلافية معقدة. قررت الولايات المتحدة عدم التدخل في تشكيل الحكومة وفي النهاية تشكلت حكومة شيعية من جديد. بعد مغادرة الأمريكيين العراق، تخلت الحكومة الجديدة عن القبائل السنية التي تعاونت مع الأمريكيين. تم اعتقال بعض أعضائهم، وتمت مصادرة أسلحتهم، وأصبحوا هدفًا لهجمات انتقامية واغتيالات موجهة من قبل القاعدة ومجموعات متمردة أخرى. نتيجة لذلك، تلاشت حركة الصحوة، وعاد جزء كبير من أعضائها، من دون اختيار، إلى أحضان القاعدة ولاحقًا داعش.

 

الإصلاحات التعليمية طوال هذه الفترة، حاولت الولايات المتحدة إعادة بناء البنية التحتية المختلفة في العراق، بما في ذلك نظام التعليم. على عكس ألمانيا واليابان في فترة الحرب العالمية الثانية، لم يُعتبر نظام التعليم العراقي إشكاليًا بشكل خاص. لم يتعلم العراقيون العسكرة القاتلة، ومن الناحية الأكاديمية، كان نظام التعليم العراقي يعتبر جيدًا جدًا حتى منتصف الثمانينيات، عندما تدهور إلى جانب العراق ككل، الذي تورط في سلسلة من الحروب وعانى من عقوبات اقتصادية أدت إلى تخفيض ميزانيات التعليم.

 

كان التحدي الرئيسي في إعادة بناء نظام التعليم في العراق بيداغوجيًا وليس أيديولوجيًا. بالإضافة إلى ذلك، كان على الأمريكيين التعامل مع المشكلة البنية التحتية، حيث تضررت العديد من المدارس في مناطق الصراع والقتال ولم يتمكن الطلاب من الدراسة بأمان. تركزت الاستثمارات على بناء وإعادة تأهيل المدارس، تأمين الطلاب والمعلمين، تدريب المعلمين، وتحديث المواد الدراسية. حققت جهود إعادة البناء نجاحًا كبيرًا في زيادة نسبة الأطفال الملتحقين بالمدارس، خاصة في التعليم الابتدائي (زادت نسبة الطلاب الملتحقين بالتعليم الابتدائي من 76% إلى 90% في العقد بين 2000-2011)، لكن جودة نظام التعليم ظلت منخفضة، واستمر معدل التسرب مرتفعًا، وكذلك الفجوات بين الجنسين.

 

دروس الحالة العراقية:

 

حسم واضح هو شرط لإعادة البناء. لا يمكن إعادة البناء تحت النار: من الناحية العسكرية، لم تنجح قوات الولايات المتحدة وحلفائها أبدًا في تحقيق الهدوء الكامل ووقف العنف في العراق، على عكس ألمانيا واليابان، على الرغم من وجود فترات توقف وهدوء مؤقتة تلاها تصاعد العنف مرة أخرى. على الرغم من أن الجيش العراقي وضع أسلحته دون مقاومة واستسلم العراق للاحتلال في بدايته، إلا أن الفشل الأمريكي في التعامل مع العراق – في تجاهل الحدود، تفكيك الدولة إلى أجزاء، وإثارة التوترات العرقية – أدى إلى اندلاع معارضة عنيفة وإرهاب مستمر. حقيقة أن جهود إعادة البناء حدثت في وسط المعارك، غالبًا داخل ساحات المعارك النشطة، أثرت بشكل ملحوظ على فعاليتها. من الصعب إعادة البناء في وسط معركة، عندما لم ينته التدمير بعد وتكون عملية البناء نفسها معرضة لخطر مستمر من التدمير.

 

نافذة الزمن التي يمكن فيها تنفيذ الإصلاحات قد تكون قصيرة وعابرة: تم استقبال الولايات المتحدة في العراق بترحيب مفتوح وكان يمكنها استغلال استسلام الجيش وغياب المعارضة المدنية. نافذة الفرصة هذه أغلقت بعد الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها وتحولت إلى معارضة عنيفة.

 

التعامل المحترم والمهني مع السكان المدنيين وتجنب القمع العنيف. يغذي القمع العنيف والمهين الكراهية والعداء تجاه القوة المحتلة ويعطل القدرة على تكوين شراكات مع العناصر المحلية وكسب ثقتهم. عندما حاولت الولايات المتحدة تغيير طريقتها وإنشاء علاقات ثقة مع المواطنين، كان ذلك في كثير من الأحيان متأخرًا جدًا – كانت المقاومة العنيفة ضدها واسعة النطاق، واضطرت إلى التضحية بأرواح العديد من أفراد قوات الأمن لحماية المواطنين وكسب ثقتهم، وكانت النتيجة مؤقتة وعابرة.

 

يجب أن يكون تطهير النظام القديم محدودًا وبراغماتيًا: العراق هو مثال على الانهيار الذي يحدث عندما يتم تنفيذ تطهير شامل لأفراد النظام القديم – فقدان السيطرة وعدم القدرة على إدارة الحياة اليومية بفعالية.

 

السيطرة على الحدود لمنع دخول العناصر المتطرفة: العراق أكثر تعقيدًا بكثير من غزة من هذه الناحية، بسبب حدوده الطويلة والصحراوية، التي توجد على الجانب الآخر منها دول قدمت ملاذًا فعليًا للجهاديين وحتى دعمتهم سراً. بالمقابل، الحدود الوحيدة التي تربط قطاع غزة بمنطقة غير “إسرائيل”ية هي ممر فيلادلفيا. من الحالة العراقية، نتعلم أهمية السيطرة على الممر. إذا استعاد حماس السيطرة على الممر، أو لم يكن هناك إشراف فعال على الممر، فإن ذلك يحمل إمكانات كبيرة للكوارث المستقبلية وسيعوق إلى حد كبير الشروط اللازمة لعملية تحول ناجحة.

 

الحذر من تفكيك المجتمع إلى أجزاء وإثارة التوترات بين المجموعات المسلحة: في قطاع غزة لا توجد مجموعات دينية متنافسة، مثل السنة والشيعة في العراق، ولكن هناك منافسات مريرة وثأر بين العائلات على أسس شخصية، جنائية وحتى سياسية (دعم فتح مقابل دعم حماس، في ضوء انقلاب حماس القاتل ضد فتح بعد الانسحاب). الفكرة التي تظهر في بعض الأحيان، لتجنب إقامة حكومة مركزية في غزة وتقسيم المساعدات الإنسانية بين العائلات المسلحة في أجزاءها المختلفة، قد تكون وصفة للفوضى الداخلية التي ستقوض أي محاولة لإعادة البناء وستضر في النهاية ب”إسرائيل” أيضًا. يجب التأكيد على أن اقتراحنا لتفكيك الشبكات الاجتماعية المحلية التي يعتمد عليها حماس (انظر لاحقًا) لا يثير نفس المخاوف. نحن لا نقترح إذكاء التوترات بين المجموعات أو العائلات، بل نسعى فقط إلى تحقيق أكبر تشتت جغرافي ممكن للهياكل بين العائلات في إعادة التوطين التي ستتم بعد الحرب. هذا التشتت سيجعل من الصعب على حماس إعادة بناء شبكاتها التقليدية التي اعتمدت عليها قبل الحرب.

 

المساعدات الاقتصادية، حتى وإن كانت هائلة، لا تضمن نتائج مستدامة. كانت النجاحات في العراق مؤقتة وتطلبت صيانة مستمرة – سواء في القوى العاملة أو في الأموال. أراد الأمريكيون إنشاء بنية تحتية، ولكنها انهارت عندما غادروا، نظرًا للصراع المستمر والانقسام الطائفي. لا يمكن للمؤسسات الجديدة البقاء دون استقرار اجتماعي وأمني.

 

لا يمكن التخلي: قررت الولايات المتحدة مغادرة العراق تمامًا، على الرغم من أنه لم يتم تحقيق الاستقرار في البلاد. كانت هذه السياسة تتناقض مع سلوكها في ألمانيا واليابان. في كلتا الحالتين، أنهت الولايات المتحدة الاحتلال المباشر فقط بعد تحقيق الاستقرار، وأنشأت آليات للتأثير السياسي والعسكري بعد ذلك، وتركت قوات وقواعد عسكرية، وحافظت على علاقات دبلوماسية واقتصادية وثيقة. في الواقع، تم إنشاء علاقة لا تنفصم بين الدول. على النقيض من ذلك، وبسبب التآكل في الشرعية الدولية والتعب الأمريكي، غادرت الولايات المتحدة العراق دون تحقيق الاستقرار، وامتنعت عن التدخل لدعم حلفائها السنة قبل مغادرتها، وبشكل عام أوقفت وجودها في البلاد. كانت النتيجة أن القليل الذي تم تحقيقه انهار أيضًا.

 

الحفاظ على الشرعية الدولية والداخلية للتدخل المستمر في غزة أمر بالغ الأهمية. يجب أن نتوقع أنه حتى في أفضل الحالات، فإن أي هيكل حكومي في غزة سيتطلب إشرافًا، وتدخلًا أمنيًا من حين لآخر وحتى دعمًا من “إسرائيل” ودول شريكة أخرى، كما كان الحال في ألمانيا واليابان. أثبتت فكرة التخلي عن غزة و”رمي المفاتيح في البحر” أنها كارثية بالفعل في السنوات التي تلت الانسحاب وهي تشكل وهمًا خطيرًا حتى اليوم. يجب أن نفترض أن غزة ستظل عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا على “إسرائيل” في المستقبل القريب، ولكن إذا تصرفنا بشكل صحيح، وبقدر ما يتبين أنه ممكن، سيتم إنشاء الظروف بحيث لا يكون هناك نظام قاتل معادي يشكل خطرًا أمنيًا كبيرًا مثل الخطر الذي يشكله نظام حماس.

 

أ 4. أفغانستان

حالة أفغانستان تعكس أطول محاولة وأحدث محاولة لتحويل أمة: غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها أفغانستان في عام 2001 وبقوا فيها لمدة عشرين عامًا، حتى عام 2021. على الرغم من الإقامة الطويلة والاستثمار الضخم في الموارد والقوات العسكرية، فشلت محاولة تحويل أفغانستان فشلًا واضحًا – عسكريًا ومدنيًا. لم تنجح الولايات المتحدة أبدًا في تحقيق الهدوء الأمني في أفغانستان، وتمكنت طالبان من السيطرة عليها بسهولة عند خروج القوات، وضاعت كل إنجازات إعادة البناء.

هناك نقاط تشابه واختلاف بين الفشل العراقي والفشل الأفغاني. نقطة اختلاف رئيسية هي أنه على عكس العراق، في أفغانستان كان هناك شعور قوي بالمقاومة لأي احتلال وجهاد. كانت أفغانستان، التي تأسست في عام 1747، تمتلك تاريخًا طويلًا في صد الغزاة الأجانب، من بريطانيا إلى الاتحاد السوفيتي. شكلت أجيال من القتال ضد الغزاة ثقافة الاستقلال والمقاومة ضد القوى الخارجية، بجانب هوية إسلامية وجهادية قوية. لذلك، على عكس العراق، حيث تم استقبال الجيش الأمريكي في البداية بأذرع مفتوحة ولم يواجه مقاومة فورية، في أفغانستان كانت المقاومة المسلحة للاحتلال فورية ومنظمة.

 

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحجم الجغرافي لأفغانستان (أكبر حتى من العراق) وظروفها القاسية، بما في ذلك غياب الطرق والسكك الحديدية والبنية التحتية الكهربائية، جعلت من الصعب جدًا على القتال ضد طالبان وكذلك على جهود إعادة البناء والتحول في أفغانستان. عززت ثقافة الجهاد، مستوى تنظيم طالبان، وظروف الأرض الصعبة من التحديات مقارنة بالعراق. في حين أن القوات الأمريكية كانت مضطرة لمواجهة المقاومة المسلحة طوال سنوات الاحتلال في كلا البلدين، إلا أنه في أفغانستان لم تكن للولايات المتحدة حتى فترة هدوء قصيرة. استمرت الحرب للسيطرة على أفغانستان لمدة عامين (2001-2). في السنوات التالية، ركزت الولايات المتحدة على إعادة بناء البلاد، بينما أعادت طالبان بناء قوتها (بما في ذلك بدعم من باكستان). في عام 2006، شنت طالبان هجومًا واستطاعت السيطرة على أجزاء كبيرة من أفغانستان، حيث حكمت بالتوازي مع حكومة الدعم الأفغانية التي سيطرت على مناطق أخرى. شنت الناتو والولايات المتحدة هجومًا مضادًا في عام 2008 باستخدام استراتيجية COIN وحققت نجاحات أبرزها مقتل بن لادن في عام 2011 (كانت العملية نفسها في باكستان). ومع ذلك، لم تتوقف المعارك، وقررت الناتو إنهاء الاحتلال المباشر ونقل المسؤولية الأمنية إلى الجيش الأفغاني. على الرغم من الاستثمار الهائل في التدريبات، والتدريبات وبناء قوة القوات الأفغانية، الذي استمر من عام 2011 إلى 2021، استمرت طالبان في الازدياد قوة. في ظل إدارة ترامب، فقدت الولايات المتحدة الصبر وفي عام 2020، توصلت الولايات المتحدة وطالبان إلى اتفاق على خروج القوات من البلاد بحلول عام 2021. بعد الاتفاق، سرعت طالبان المعارك ودفعت الولايات المتحدة فعليًا إلى الفرار في أغسطس 2021 عندما سيطرت على كابول العاصمة. حتى ذلك الحين، ورغم التحديات، حققت التحولات في أفغانستان إنجازات ملحوظة – تم بناء الطرق، وبناء البنية التحتية، وافتتاح المدارس، وإقامة نظام ديمقراطي، وزيادة حقوق المرأة والتمثيل السياسي، وزيادة متوسط العمر من 56 إلى 65 عامًا، وأصبحت أفغانستان أكثر حديثة وحضرية، وتم تطوير طبقة وسطى شابة ومتعلمة. تم إلغاء معظم الإنجازات بعد استعادة طالبان للسيطرة.

 

دروس الحالة الأفغانية مشابهة جزئيًا لدروس الحالة العراقية:

صعوبة هائلة في إعادة الإعمار تحت النار. الصعوبة لا تنبع فقط من القتال نفسه، الذي يتطلب القوات والموارد ويصعب على القوات التركيز على إعادة البناء، بل أيضًا من جهود المقاومة العنيفة لتعطيل إعادة الإعمار. طالبان لم تتوقف أبدًا عن الوجود كمنظمة عسكرية وحكومية. أمرت بإغلاق أو حرق جميع المدارس الحكومية، هددت المعلمين بالاستقالة وقتلتهم عندما رفضوا، وخفضت مستوى التعليم أكثر مما كان عليه خلال فترة حكمها الأولى. طالبان أيضًا تلقت دعمًا خارجيًا من باكستان، مثل قيادة حماس الخارجية التي تتلقى دعمًا من دول مختلفة. الحاجة إلى هزيمة مطلقة – وقطع النظام القاتل عن مصادر قوته، أمر مهم بشكل خاص في حالة غزة – هو درس من جميع الحالات التي قمنا بمراجعتها، سواء عن طريق الإيجابية (ألمانيا واليابان) أو السلبية (العراق وأفغانستان).

 

لا يمكن التخلي عن نظام عنيف وغير مستقر. من اللحظة التي اكتشفت فيها الولايات المتحدة عدم صبرها ونيتها المغادرة، استعدت طالبان لـ “اليوم الذي يلي الولايات المتحدة” واكتشفت الحكومة الأفغانية الجديدة أنها ستبقى وحدها في المعركة. كانت النتيجة تسريع وتيرة السيطرة الطالبانية والانهيار السريع للحكومة الأفغانية، على الرغم من أنها كانت تمتلك معدات وتكنولوجيا متفوقة. كما في غزة، من المحتمل أن يؤدي الانسحاب دون القضاء على حكم حماس إلى إلغاء كل الإنجازات.

 

نافذة الزمن التي يمكن فيها تنفيذ الإصلاحات قصيرة وعابرة: على الرغم من الحرب العنيفة، في السنوات الأولى – من 2001 إلى 2005، حصلت الحكومة الأفغانية الجديدة على دعم كبير، وكان الجمهور نسبيًا صبورًا على الوجود الأمريكي، وتلقى طالبان ضربة قوية ولم يكن قد أعاد تنظيمه بعد. في هذه السنوات، ارتكبت الولايات المتحدة ثلاث أخطاء حاسمة:

 

أ.استبعاد طالبان تمامًا من “اليوم الذي يلي” في أفغانستان، على الرغم من رغبة واستعداد بعض العناصر المعتدلة في طالبان التي تعرضت للضربات للمشاركة في الحكومة الجديدة. تمت كتابة دستور جديد وتشكيل حكومة دون أي مشاركة من طالبان.

 

ب.كان هذا الخطأ حاسمًا لأن الولايات المتحدة لم تستغل تلك السنوات لإنشاء جيش وشرطة قويين بما يكفي لحماية أفغانستان من طالبان. إذا كانوا قد سمحوا لطالبان بالمشاركة في اليوم الذي يلي – وبالتالي تقليل الرغبة في العودة إلى العنف، وكذلك الشعور بأن الحكومة الجديدة ليست “أفغانية بالكامل” – لكان هذا ملائمًا. لكن استبعاد طالبان من الحكومة دون إنشاء جيش قوي شجعها على التنظيم ومهاجمة من جديد، وأتاح نجاحها.

 

ج. بالتوازي، كما في العراق، ارتكبت الولايات المتحدة أخطاء عديدة في السنوات الأولى من استخدام القوة المفرطة وإظهار سلوك مهين للسكان المحليين، أخطاء دفعت جزءًا كبيرًا من السكان للعودة إلى طالبان والانضمام إلى صفوفها.

 

من منظور مقارن، فإن نافذة الزمن القصيرة للتغيير هي درس من جميع الحالات التي قمنا بمراجعتها. تم تحقيق الإنجازات في ألمانيا واليابان في سنوات قليلة من الاحتلال مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية؛ كان العراق مفتوحًا للولايات المتحدة فور الاحتلال؛ وكذلك أفغانستان.

 

وبالتالي، من المتوقع أن تحقق أي إصلاحات ترغب “إسرائيل” في تنفيذها في غزة أقصى نجاح إذا تم تنفيذها فور انتهاء القتال، دون تأخير. في الوقت نفسه، يجب التأكد من دمج أكبر عدد ممكن من جميع الفئات المهيمنة؛ تجنب التطهير الزائد؛ وتجنب القوة المفرطة والسلوك المهين تجاه المدنيين، من أجل عدم دفع السكان للعودة إلى أحضان حماس.

 

الانقسام القبلي والعرقي يعقد الديمقراطية. مثل العراق، فإن أفغانستان مقسمة إلى مجموعات مختلفة، قاتلت بعضها البعض لمدة 20 عامًا قبل غزو الولايات المتحدة. تمكن حكم طالبان من توحيد أفغانستان بالقوة والإسلام، العامل المشترك الوحيد بين القبائل المختلفة. بعد إسقاط طالبان، كانت العداء القبلي عقبة أمام القبائل في التكيف مع تقاسم السلطة والتعاون المطلوبين في نظام ديمقراطي وزعزعت الديمقراطية الأفغانية الناشئة.

 

الأيديولوجيا الجهادية هي عقبة خطيرة أمام التحول وإعادة البناء. الأيديولوجيا الأفغانية للورع الإسلامي ومقاومة الاحتلال جعلت طالبان ممثلين أكثر ولاءً للهوية الأفغانية من الحكومة الديمقراطية التي أنشأتها الولايات المتحدة. على الرغم من أن الحكومة حصلت على دعم شعبي أوسع من طالبان، كان من السهل لطالبان تجنيد المقاتلين في صفوفها وكانوا أكثر تصميماً من قوات الحكومة. كما كتب كارتير مالكسيان: “كثير من الأفغان فضّل الحكومة أكثر من طالبان. وكثير من الأفغان كان على استعداد للخدمة لصالح الحكومة أكثر من خدمة مصالح طالبان. لكن كثيرا من الأفغان كانوا على استعداد للقتل والموت من أجل طالبان. كان لدى طالبان ميزة في الإلهام. هذه الميزة أحدثت فرقًا.”

 

هذه الكلمات يجب أن تكون بمثابة تحذير واضح ل”إسرائيل”. أي محاولة لإعادة تأهيل سكان غزة يجب أن تستند إلى رواية فلسطينية-غزاوية أصلية، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإسلام، لتكون قادرة على التغلب على جاذبية الجهاد.

 

 الحكم الإسرائيلي على السكان الفلسطينيين وتطوراته

 يمكن تقسيم تحليل الحكم الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية/يهودا والسامرة وقطاع غزة إلى ثلاث فترات رئيسية: 1967-1994، من إنشاء السلطة الفلسطينية فصاعدًا؛ وبالنسبة لقطاع غزة، من فك الارتباط فصاعدًا.

 

الفترة الأولى: 1967-1994: الاحتلال والإدارة المباشرة للسكان في هذه السنوات، أدارت “إسرائيل” السكان الفلسطينيين بنموذج الاحتلال المباشر، من خلال ضباط مقر، بعضهم من الفلسطينيين المحليين، الذين كانوا يتعاملون مع إدارة الجوانب المدنية المختلفة من التعليم، الرفاهية، الصحة وما إلى ذلك. بالإضافة إلى الأنظمة التي أدارها الإدارة العسكرية الإسرائيلية، تم الاستمرار في إدارة بعض أنظمة التعليم، العمل والمساعدة من قبل الأونروا، التي كانت تديرها منذ عام 1949.

 

عمومًا، لم تتخذ “إسرائيل” سياسة تحويل طموحة وشاملة خلال هذه الفترة، بخلاف الحلفاء في ألمانيا واليابان، لكنها استثمرت موارد كبيرة في بناء البنية التحتية والمعايير، مثلما فعلت في العراق وأفغانستان. فيما يتعلق بالتعليم، احتفظت “إسرائيل” بمنهج الأردن في الضفة الغربية والمصري في غزة، ولكنها حاولت في الوقت نفسه الترويج لتوحيد نظام التعليم. على سبيل المثال، وضعت “إسرائيل” معايير الحد الأدنى من التعليم للمعلمين في النظام التعليمي وفرضت عليهم دورات تدريبية مهنية. بالإضافة إلى ذلك، قامت “إسرائيل” ببناء فصول دراسية ومدارس، حددت نسبة عدد الطلاب لكل فصل، وأنشأت وطورت مؤسسات التعليم العالي، بما في ذلك النجاح وبير زيت، في البداية كمعاهد تعليمية ثم سمحت لها بالتوسع في مجالات أخرى ومنحتها تراخيص كمؤسسات أكاديمية في “إسرائيل”.

 

واجهت بعض الإصلاحات التعليمية في “إسرائيل” مقاومة، بما في ذلك إضراب المعلمين الكبير عام 1969، الذي اندلع احتجاجًا على توحيد مهنة التدريس، مما أثر على دخل المعلمين الذين لم يستوفوا المعايير الجديدة. ومع ذلك، لم تتعامل “إسرائيل” خلال سنوات الاحتلال الطويلة مع فحص التحريض على العنف والكراهية في النظام التعليمي الفلسطيني، لم تفحص أو تصادق على الكتب المدرسية، ولم تحاول القضاء على المحتوى المتطرف من النظام التعليمي الفلسطيني.

 

من الناحية الإدارية، أدارت “إسرائيل” علاقات مع شخصيات تمثل عادةً العائلات الفلسطينية ذات النفوذ المحلي. تم دمج هؤلاء الوجهاء بشكل رئيسي في الآليات البلدية، وخاصة في البلديات. هذه الطريقة في الإدارة كانت تعكس الفهم الإسرائيلي بأن المنطقة يمكن إدارتها بفعالية من خلال العشائر القوية، دون السماح بتشكيل كيانات قيادية وطنية تتحدى السيطرة الإسرائيلية (كان مثل هذا الكيان هو اللجنة للتوجيه الوطني، التي تألفت من عدة رؤساء بلديات لديهم توجه وطني؛ تم تأسيس هذا الكيان في عام 1978 واستمر حوالي عامين). رؤساء البلديات كانوا أعلى رتبة سمحت بها “إسرائيل” ونتيجة لذلك، أصبحوا رؤساء وزراء محليين بعد عام 1967. عمل ضباط المقر للإدارة المدنية – بعضهم كانوا في ذلك الوقت “إسرائيل”يين، والبعض الآخر فلسطينيين محليين – عن كثب مع رؤساء البلديات الفلسطينيين.

 

من الناحية الدينية، لم تتعامل “إسرائيل” مطلقًا مع الرقابة والإشراف على ما يحدث في المساجد والنظام الاجتماعي الذي تطور حولها. كانت هناك عناصر مؤثرة في “إسرائيل” ترى في رجال الدين من نوع أحمد ياسين شخصيات ذات تأثير مهدئ، وسُمح للمنظمات الدينية، بقيادة الشيخ ياسين، بنشر أفكارهم الدينية والسياسية دون معارضة في الأراضي الفلسطينية، حتى أصبحوا تحديًا ل”إسرائيل” في منتصف الثمانينيات، وخاصة مع اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987. منذ اندلاع الانتفاضة وإنشاء حماس رسميًا، بدأت الحركة في التصدي للقوات الإسرائيلية والمستوطنين، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو داخل الخط الأخضر. في الوقت نفسه، خاضت معركة داخلية مع فتح للهيمنة وقيادة الشارع الفلسطيني والنضال المسلح ضد “إسرائيل”. وفي الوقت نفسه، بدأت حماس في بناء نفسها كبديل لنهج المفاوضات مع “إسرائيل”، الذي قاده عرفات، في إطار مؤتمر مدريد ومحادثات السلام في واشنطن التي تبعته. طوال ذلك الوقت، اعتبرت “إسرائيل” حماس كمنظمة إرهابية، وعملت بكل جهدها للقضاء على التهديد – سواء باغتيال نشطاء حماس وقادتها أو بالاعتقالات الواسعة لرجال حماس. ومع ذلك، في كل مرة، تمكنت الحركة من النهوض من جديد، سواء من خلال نواة من النشطاء الذين ظلوا في الميدان أو من خلال عناصر حماس من الخارج الذين قدموا إلى الأراضي الفلسطينية وأحيوا النشاط مرة أخرى. وهكذا، عشية محادثات أوسلو، كانت حماس لا تزال تشكل تهديدًا كبيرًا، سواء على فتح في المعركة على الهيمنة في المجتمع الفلسطيني أو على دولة “إسرائيل” ومواطنيها.

 

على عكس السلطة الفاسدة، فاز حماس في الانتخابات التي جرت في يناير 2006 في جميع مناطق السلطة الفلسطينية وترجم هذه الشعبية إلى قوة سياسية. بجانب ذلك، قام حماس بسرية ببناء “الجيش الشعبي” الذي سيمكنه في وقت قصير من السيطرة على قطاع غزة. في عام 2007، نفذ حماس انقلابًا وحشيًا في القطاع، أطاح برجال السلطة الفلسطينية من حكمهم في غزة، وأصبح الحاكم الوحيد للقطاع ومنذ ذلك الحين يسيطر على جميع مؤسسات الحكم. تمتد تأثيرات حماس ليس فقط على آليات السلطة المدنية بل أيضًا على كيانات مستقلة ظاهريًا، مثل الأونروا. تقوم الأونروا في غزة بتشغيل نظام واسع من المساعدات الإنسانية، بما في ذلك العديد من المدارس. ورغم أنها منظمة دولية، فإن معظم موظفيها محليون. بخلاف تفويض الأونروا والتزاماتها كوكالة أممية، تشير الأبحاث إلى أن مؤسسات المنظمة قامت بتعليم أطفال قطاع غزة على مدار سنوات بروح مناهضة ل”إسرائيل” ومعادية للسامية ومؤيدة للجهاد. الكتب التي كتبها أعضاء الأونروا وتحمل شعار المنظمة تبرر أعمال الإرهاب التي تشمل قتل المدنيين. أدى كشف الغسل الدماغي الإرهابي في كتب التدريس إلى استعداد ظاهري من الأونروا لتعديل كتب التدريس في عام 2017، ولكن هذا الأمر قوبل بمعارضة شديدة من حكم حماس الذي أحبط التغييرات. تقرير من منظمة IMPACT-SE في نوفمبر 2023 وثق سلسلة من الإشادات من بعض موظفي جهاز التعليم التابع للأونروا بمذبحة المدنيين في 7 أكتوبر. بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على أدلة تشير إلى أن موظفي الأونروا كانوا يعملون بالتوازي مع حماس، بما في ذلك في الجناح العسكري للمنظمة، وكان بعضهم متورطًا بشكل نشط في المذبحة وفي احتجاز رهائن. بالمثل، تشير العديد من الأدلة، بما في ذلك تلك التي تم الكشف عنها خلال المناورة البرية في إطار “سيوف الحديد”، إلى استخدام حماس لبنى الأونروا في القطاع كغطاء لنشاطها العسكري. كما هو الحال في المواجهات السابقة، تم العثور على صواريخ حماس مخبأة في منشآت المنظمة ومخفية في صناديق تحمل شعار الأونروا. تم اكتشاف مداخل أنفاق في منشآت الأونروا، وفي الماضي تم العثور على أدلة على نشاط تجسس قامت به حماس عبر أفراد الأونروا. هذا الكم من الأدلة يشير إلى أن سيطرة حماس على آليات الأونروا شاملة ومباشرة. أدى الانفصال الكامل عن قطاع غزة وصعود حكم حماس إلى فقدان أي قدرة “إسرائيل”ية على التأثير على الآليات المدنية في القطاع، من حيث التعليم والدين والثقافة والحكم. في قطاع غزة، نمت بنية تعليمية وحكومية قائمة على أيديولوجية قاتلة شاملة، تتضمن غسيل دماغ جهادي واسع للجيل الناشئ. ب. شروط البداية في قطاع غزة لتشكيل “اليوم التالي” أثناء كتابة هذه السطور (لأول مرة في فبراير، وأيضًا الآن، في بداية يوليو)، لا تزال الحرب جارية وهناك عدم وضوح بشأن صفقة رهائن أخرى قد توقف القتال لفترة طويلة. لم تتشكل بعد شروط البداية لتشكيل اليوم التالي بالكامل، لكن يمكن الإشارة إلى بعض النقاط الهامة بالفعل.

 

تدمير واسع للبنية التحتية والمؤسسات وأزمة إنسانية شديدة. يشهد القطاع تدميرًا واسعًا للبنية التحتية وأزمة إنسانية تعبر عن نفسها في الجوع والعطش والأمراض والإجلاء الواسع للسكان من منازلهم وغياب المأوى والسكن لأجزاء واسعة من السكان، وتدمير العديد من منازل المهاجرين (لا يوجد مكان للعودة إليه). دمرت العديد من المباني العامة، بما في ذلك مؤسسات التعليم والرعاية والقضاء، وهي لا تعمل. فقدت كمية كبيرة من العائلات أفرادها وأصبح العديد من الأطفال أيتامًا.

 

زعزعة النظام الاجتماعي والسياسي. بالإضافة إلى الأزمة والدمار، تغير الحرب بشكل جذري نسيج الحياة وتكسر النظام الاجتماعي والسياسي. اندلعت توترات بين العشائر والمجموعات المتنافسة وستستمر في الاندلاع على خلفية نقص الموارد، وانهيار حكم حماس، والتهجير إلى المخيمات المؤقتة.

 

عدم اليقين بشأن الرأي العام في غزة ومعارضة السكان لإجراءات التحول وإعادة البناء. عشية الحرب، أظهر استطلاع للرأي أجراه خليل الشقاقي دعمًا بنسبة 44% لحماس في قطاع غزة. أظهر استطلاع آخر لـ Arab Barometer، الذي تم جمع بياناته في 6 أكتوبر، نسب دعم أقل (29%) لحكومة حماس في غزة وعدم رضا واسع عن أدائها. في الأسابيع الأولى من القتال، أجريت استطلاعات تشير إلى دعم كبير لحماس ولمذبحة 7 أكتوبر بين الفلسطينيين في الضفة الغربية ودعم أقل، وإن كان لا يزال كبيرًا، في غزة. في الأشهر الأخيرة، كانت هناك احتجاجات متفرقة لإسقاط حماس في جنوب القطاع، وحتى مواجهات بين السكان وعناصر حماس في وسطه، لكن من الصعب معرفة مدى أصالة وتمثيل هذه الأحداث. في كل الأحوال، لا تضمن الانتقادات والغضب تجاه حماس تعاون السكان مع إجراءات إعادة البناء والتحول المستقبلية. التثقيف الواسع للجهاد وكراهية “إسرائيل”، مصحوبًا بالظروف القاسية الحالية في القطاع وحقيقة أن هناك حاليًا عشرات الآلاف من العائلات في القطاع فقدت أحباءها بسبب “إسرائيل”، يتنبأ بموقف عدائي تجاه أي حكم “إسرائيل”ي مستقبلي وقد يؤدي إلى أعمال يأس وعنف، بالإضافة إلى أعمال انتقام من قبل الغزيين الذين فقدوا أقاربهم بسبب “إسرائيل”.

 

عدم اليقين بشأن وجود بدائل قيادية لحماس في القطاع.

 

تعتمد جميع حالات إعادة البناء والتحول التي قمنا بمراجعتها على قيادات وطنية نشأت بعد القتال، واستندت إلى معارضي النظام النشطين أو السلبيين (مثل كونراد أديناور وأنصاره في ألمانيا) أو معارضي النظام الذين عادوا من المنفى (مثل القيادة الشيعية في العراق). مدى فعالية هذه القيادات والثقة التي اكتسبتها من السكان المحليين والمجتمع الدولي أثرت بشكل كبير على نجاح جهود إعادة البناء. في الحالة الغزاوية، ليس من الواضح من هم معارضو النظام الموجودون في وضع يسمح لهم بقيادة سياسية وليس من الواضح ما إذا كانت هذه المعرفة موجودة في “إسرائيل”. حتى لأداء مهام بسيطة ظاهريًا مثل توزيع المساعدات الإنسانية، فإن الجهات الموجودة (حماس والأونروا) لا يمكن قبولها من قبل “إسرائيل”، وليس من الواضح من يمكنه استبدالهم، بالنظر إلى ضعف السلطة الفلسطينية وطبيعتها الإشكالية. التوقعات بمحاولة حماس لاستعادة وضعها والسيطرة مجددًا على القطاع. منذ أشهر طويلة نرى أن حماس تحاول استعادة السيطرة عسكريًا ومدنيًا على المناطق التي قللت فيها القوات الإسرائيلية من وجودها. من الممكن افتراض أنه ما لم يُهزم حماس ويفكك، فإنه سيستمر في محاولة استعادة قوته. بالإضافة إلى ذلك، ستسعى القيادة الخارجية لحماس إلى تجديد القيادة الداخلية وضخ قيادة جديدة وموارد. ستستمر قطر وإيران في محاولة التأثير على ما يحدث وتعزيز الجهات المتطرفة. مع ذلك، فإن سيطرة “إسرائيل” على معبر رفح ومحور فيلادلفيا، فوق الأرض وتحتها، ستجعل من الصعب على حماس تجديد مخزونها من المواد الخام والذخائر واستيراد الجهات الراديكالية من الخارج، طالما أن الجيش الإسرائيلي يحتفظ بالحدود بين القطاع ومصر. الاعتماد الاقتصادي الكامل على العوامل الخارجية. نفترض أن الوضع الصعب في قطاع غزة سيؤدي إلى استمرار الاعتماد الاقتصادي والإنساني لغزة على الغرب والدول العربية وبشكل أكبر بعد الحرب. ومع ذلك، لا يرغب أي جهة دولية في تحمل المسؤولية الإدارية عن قطاع غزة – لا يوجد من يرغب في إدارة المنطقة بدلاً من الفلسطينيين أو “إسرائيل”. في ظل هذه الظروف، يجب ملاحظة التشابه والاختلاف بين حالات التحول السابقة والواقع في غزة: لغير صالحنا: غزة تمر بدمار هائل، لكن ليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا سيكفي لإجبار حماس على الاستسلام غير المشروط وتفكيك قوتها بالكامل، كما استسلمت ألمانيا واليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. سهل الاستسلام الكامل على الحلفاء إعادة بناء الأمم دون مقاومة عنيفة. “إسرائيل” ليست قوة احتلال جديدة تستمتع بـ “الائتمان” الذي كان للولايات المتحدة وحلفائها في ألمانيا، اليابان، أفغانستان، والعراق (بدرجة أقل، نظرًا لحرب الخليج). بين “إسرائيل” والفلسطينيين هناك رواسب، كراهية متجذرة وانعدام ثقة، من بين أمور أخرى بسبب الخوف الفلسطيني من “نكبة جديدة” و/أو استئناف الاستيطان اليهودي في غزة، وهي أحداث إذا حدثت ستصعب جهود إعادة البناء وتكون أرضًا خصبة لتنظيم عنيف جديد. حتى على الساحة الدولية يبدو أن شركاء “إسرائيل” مترددون في إمكانية أن تعود لإدارة غزة. موارد “إسرائيل” أكثر محدودية من تلك التي كانت متاحة للولايات المتحدة في إعادة بناء اليابان وألمانيا. مع ذلك، يجب أن نلاحظ أن أجزاء حاسمة من إعادة بناء ألمانيا جرت قبل إطلاق خطة مارشال في عام 1948، وقادتها أيضًا دول كانت نفسها منهكة اقتصاديًا وفي حالة سياسية مضطربة، مثل بريطانيا وفرنسا. ربما كان النموذج البريطاني، الذي ركز على التنظيم السلبي، أكثر اقتصادا، رغم أن فرنسا – التي اضطرت هي نفسها للتعافي من الاحتلال ونظام فيشي – تمكنت من مواجهة المهمة من خلال استثمار موارد واسعة. في هذا السياق، يجب على “إسرائيل” أن تدرس مواردها – ونسبة التكلفة إلى الفائدة من مشروع لإعادة بناء وتحول غزة – مقابل البديل: تجدد حماس في غزة، سياسيًا وعسكريًا، على خلفية اجتماعية من الدعم الواسع لفكرة النضال المسلح وكراهية “إسرائيل”، دون عملية تحول ودون سيطرة أمنية “إسرائيل”ية. هذا البديل، الذي يُروج له علنًا في أوساط مختلفة في “إسرائيل” وخارجها، يتوقع حدوث سبعة أكتوبر أخرى كاحتمال واقعي تمامًا – مسألة وقت – ويمكن توقع أنه قبل ذلك سيتجدد قصف الصواريخ من غزة على الجنوب والوسط. الموارد التي يتطلبها هذا السيناريو من “إسرائيل” هائلة أيضًا وأمده الطويل غير موجود تمامًا. الطرفان في النزاع يعملان على جانبي نفس الحدود. هذه الخاصية تختلف عن معظم الحالات التاريخية التي تم فيها احتفاظ الولايات المتحدة وحلفائها بأراضي بعيدة مؤقتًا وعادوا عبر البحر بعد انتهاء التحول (أقرب حالة مماثلة هي فرنسا وألمانيا المجاورتين، التي تجاوزت النزاع الإقليمي بينهما بعد فترة الاحتلال وإعادة البناء). هذه الخاصية تؤثر على مستويات العداء على كلا الجانبين، وكذلك على اعتبار النزاع “غير قابل للحل” و”لعبة محصلتها صفر”. على عكس ألمانيا واليابان، ومثل العراق وأفغانستان، لدى حماس قيادات خارج غزة (السجون، الخارج) تسعى إلى إعادة بناء قوتها حتى بعد الهزيمة، ولديها القدرة المثبتة على القيام بذلك. العلاقة الوثيقة بين التطرف والدين في غزة تجعل من الصعب خلق سرد بديل للسرد الحماسي. في ألمانيا، استخدم كونراد أديناور، المستشار الأول بعد الحرب، الدين كمصدر للقيم لإعادة بناء ألمانيا، على النقيض من النازية. كان بإمكان مشروع إعادة التعليم في ألمانيا أن يأخذ منحى معاكسًا للنازية عبر الدين. على النقيض من ذلك، فإن أساس التطرف الحماسي يستند إلى تفسيره للإسلام. كل محاولة.

 

إعادة التعليم

يجب أن يكون لها ارتباط وثيق بالإسلام، لكن هذا تحد كبير نظرًا للصلة بين الإسلام والجهاد. من الصعب تجاهل أن هناك نمطًا من الفشل في عمليات التحول في الدول العربية مثل العراق، والدول الإسلامية غير العربية مثل أفغانستان. عدد الحالات صغير، وهناك أيضًا اختلافات كبيرة لصالحنا بين غزة وهاتين الحالتين، ولكن قد تكون هناك جوانب ثقافية ووطنية تجعل من الصعب تنفيذ مثل هذه العمليات في مجتمع يتمتع بأخلاقيات عربية إسلامية قوية. قد يكون من الصعب أيضًا إجراء مثل هذه العمليات في العصر الحالي أكثر من الماضي. ليس من الواضح، بناءً على المعلومات المتاحة لنا، ما إذا كانت هناك قيادة محلية يمكن أن تكون بديلاً لحماس وشريكًا فعالًا في مشروع التحول وإعادة البناء. إذا لم يكن هناك مثل هذه القيادة، فهذا عيب كبير. في صالحنا: فشلت محاولات إعادة البناء في العراق وأفغانستان من بين أمور أخرى بسبب صعوبة فرض حكم مركزي في مجتمعات قبلية ومبعثرة، متنازعة داخليًا ومنتشرة على مساحة جغرافية واسعة، في تضاريس صعبة. هذه الظروف سهلت على مجموعات المتمردين إعادة تنظيمها، وضرب القوات المحتلة واستنزافها. بالإضافة إلى ذلك، صعب الانتشار الجغرافي على الولايات المتحدة في مشروع نزع التطرف وإعادة البناء. شهدت المراكز الحضرية تقدمًا ملحوظًا، بينما بقي الآخرون متأخرين وكانوا أهدافًا سهلة لإعادة احتلالها من قبل طالبان / القاعدة / داعش. في المقابل، غزة صغيرة ومكتظة بالسكان، منظمة بشكل أعلى، مأهولة بمجموعة عرقية متجانسة، ولا توجد فيها صراعات قبلية عميقة كما في العراق وأفغانستان. من اللحظة التي يتم فيها السيطرة على الأرض سيكون من الأسهل الاحتفاظ بها ومنع إعادة تنظيم القوى العنيفة، وسيكون من الأسهل نقل وتنفيذ جهود إعادة البناء. لدى “إسرائيل” خبرة ومعرفة طويلة الأمد مع غزة، بما في ذلك القدرة الاستخباراتية (بقدر ما تستمر في تحقيق السيطرة على الأرض، الاستخبارات المضادة أقل فعالية بكثير)، وفهم كبير للسكان والقيادة والنظم، مقارنة بالتي كانت لدى الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. يمكن ل”إسرائيل” أن تتعلم من دروس الحالات السابقة وعدم الوقوع في نفس الأخطاء والفخاخ التي وقعت فيها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، مع التركيز على تجنب ترك الحدود دون مراقبة، والحذر من قمع السكان والحفاظ على احترام المواطنين، وتجنب التطهير المفرط للبيروقراطية، وغيرها. يمكن ل”إسرائيل”، بالتعاون مع القوى العربية المعتدلة في منطقتنا، دمج غزة والفلسطينيين في محور بديل لمحور حماس-إيران، وهو ما لم يتم في العراق وأفغانستان، وبناء سرد تعليمي إيجابي في غزة قائم على (على سبيل المثال) الإصلاحات التعليمية التي تحدث في السعودية والإمارات، والخروج من التخلف إلى النجاح. في ختام كل هذا، نعود ونشير إلى أن عملية التحول وإعادة البناء مكلفة ومعقدة ولا يوجد ضمان لنجاحها. هناك حاجة لتطوير استعداد عقلي وعملي لإمكانية الفشل – ووضع خطط بديلة. دون التقليل من ذلك، نعتقد أنه نظرًا لثقل الوزن على كل ما على المحك وشدة الوضع الحالي، يجب التفكير بجدية في عملية التحول وإعادة البناء، والسعي لتحقيق تنفيذها بأفضل طريقة ممكنة. الاحتمال لتحقيق سلام مستدام مع غزة بدون مثل هذه العملية ليس واقعيًا، نظرًا للسنوات الطويلة من حكم حماس، ووضع غزة والمعتقدات المتأصلة فيها، وغياب القيادة البديلة الفعالة والمحبة للسلام، والسعي الحازم لحماس لإعادة إقامة حكمها (الفعالة والقاتلة).

 

ج. مسار لتحويل غزة وإعادة بنائها

ج. 1. من سيدير غزة في اليوم التالي؟ في الفصل الحالي، سنرسم مخططًا أوليًا وعامًا لتحويل غزة، استنادًا إلى الدروس التاريخية والمقارنة للنجاحات والفشل في تحويل وإعادة بناء الأمم. سنبدأ بالقول إن الأفق طويل الأمد لعملية التحول وإعادة البناء يجب أن يكون إنشاء كيان فلسطيني ذاتي. يعلمنا التاريخ أن وضع أفق إيجابي للاستقلال الجديد والقبول في أسرة الأمم ضروريان لنجاح العملية، سواء لاستغلال السكان والقيادة الجديدة، أو لتحقيق التعاون الدولي المطلوب لتمويل وتنفيذ الإصلاحات. ومع ذلك، يجب أن يكون استقلال هذه الكيان مشروطًا بمتطلبات صارمة ضرورية لضمان الأمن والاستقرار الإقليميين، وعلى رأسها التعليم للسلام، والتخلي عن العنف والإرهاب، والفعالية الأمنية والإدارية. يجب التأكيد على أنه لا ينبغي أن تكون هناك أي طموحات لتحويل الفلسطينيين إلى “صهاينة” أو التحكم في حياتهم وتعليم أطفالهم، ولكن فقط لضمان الحد الأدنى الذي يسمح لل”إسرائيل”يين والفلسطينيين بالعيش بسلام دائم كجيران، على جانبي الحدود. يعلمنا التاريخ أن عملية تحقيق هذه الشروط تبدأ بمرحلة أولية من الإدارة والإشراف الخارجي غير الفلسطيني. يمكن تنفيذ هذه الإدارة من خلال قوة دولية خاصة، التي تشارك فيها “إسرائيل” بشكل مباشر.

 

أو بشكل غير مباشر، أو مباشرة من قبل “إسرائيل”. كما أشرنا، هذه المرحلة تحمل في طياتها مشكلات صعبة: الدمار الكامل للبنية التحتية المادية والاقتصادية والتعليمية، سكان محطمون لا تكاد توجد فيهم أسر لا تعاني من الفقدان، العديد من الأيتام والأرامل، رجال فقدوا زوجاتهم وأطفالهم، كراهية شديدة ل”إسرائيل”، اعتماد اقتصادي كامل على المتبرعين والمنظمات الأجنبية، بعضها مشكلة كبيرة (مثل قطر والأونروا)، واحتمال كبير لأعمال إرهابية فردية وجماعية، بما في ذلك محاولات حماس لإعادة بناء نفسها. في ظل هذه الظروف الصعبة، من سيتحمل مسؤولية إعادة بناء غزة وتحويلها؟ حلفاء “إسرائيل” غير راغبين في فكرة أن تعود “إسرائيل” لإدارة غزة، لكنهم أيضًا لا يرغبون في إدارة غزة بأنفسهم. حسب معرفتنا، لا يوجد حاليًا أي جهة فلسطينية قادرة على تنفيذ مشروع إعادة بناء وتحويل بنجاح يلبي أهداف التعليم للسلام، والتخلي عن العنف والإرهاب، والفعالية الأمنية والإدارية. السلطة الفلسطينية فاشلة إداريًا، وتعاني من الفساد، وتعلم الكراهية ل”إسرائيل” وليس السلام، ولا تتخلى عن العنف والإرهاب. قد يكون هناك داخل غزة نفسها عناصر قيادية قادرة على مواجهة التحدي، لكن هذه العناصر ستحتاج إلى تدريب ودعم ومساعدة في جميع المجالات – الإنسانية والبنية التحتية والتعليمية والشرطية والاقتصادية – من أجل النجاح في المهمة. من الواضح أنهم لن يتمكنوا من تولي القيادة من اليوم الأول، والتجربة المتراكمة في ألمانيا واليابان والعراق وأفغانستان تشير إلى أن بناء قيادة محلية فعالة هو عملية طويلة الأمد، تتطلب إشرافًا ومتابعة مكثفة، ونجاحها غير مضمون. لسنا على دراية بتفاصيل المفاوضات الدبلوماسية الجارية بين “إسرائيل” وشركائها المحتملين، لكن من الواضح أن غزة لن تعيد بناء نفسها من العدم، وأنه يجب أن ينشأ نظام انتقالي يشارك فيه قوات غير فلسطينية بطريقة أو بأخرى. كما من الواضح أنه حتى إذا كانت العديد من الدول ترغب في إنهاء النزاع ومعالجة الأزمة الإنسانية في القطاع، فإن أي دولة سوانا لن تصر على خطط التحول وإعادة البناء الضرورية على المدى الطويل، لكنها معقدة وثقيلة على المدى القصير. هذا التحليل الاستراتيجي يتجاوز نطاق هذا المستند، لكن يكفي أن نذكر أن قاعدة أساسية في نظرية التفاوض هي: عندما يكون لدى الجانب المفاوض بدائل معقولة للاتفاق، يكون لديه قدرة أكبر على تحقيق نتائج في المفاوضات مقارنة بوضعه بدون بدائل ويُنظر إليه على أنه مضطر للتوصل إلى اتفاق بأي ثمن. إذا اعتقد شركاء “إسرائيل” في المنطقة والعالم أن “إسرائيل” ليس لديها بديل للاتفاق وأنها ستنسحب من غزة على أي حال، فلن يكون لديهم مصلحة في الموافقة على شروط صعبة، مثل إقامة حكومة فعالة تنفذ خطط التحول وتشرف على تنفيذها لفترة طويلة. حسب تقديرنا، يجب على “إسرائيل” توضيح لشركائها أن لديها بديلًا للاتفاق: إذا لم يتم التوصل إلى حل فعال للسيطرة على غزة في اليوم التالي، فلن يكون لديها خيار سوى تحمل المسؤولية بنفسها والسيطرة على غزة مرة أخرى. هذا أمر مهم جدًا، لأنه في الوضع العقلي الفلسطيني الحالي، فقدان الأرض هو تهديد أكبر بكثير من دمار الممتلكات وفقدان الأرواح، حتى بشكل كبير ومفزع. هذا يعني أنه إذا كانت “إسرائيل” لا تريد الانجرار إلى غزة كسلطة سيادية على المدى الطويل، فعليها أن تظهر استعدادها للقيام بذلك بالضبط، وتبرير الضرورة لذلك من أجل وجودها في الواقع الصعب الذي ستستمر في مواجهته في المستقبل القريب. نحن نناقش بإيجاز الجوانب السياسية والقانونية لإنشاء هيئة إعادة بناء “إسرائيل”ية في الملحق. في باقي هذا الفصل، نفترض أنه سيتم إنشاء هيئة، بأي شكل من الأشكال، تتولى مسؤولية إدارة إعادة بناء غزة وتحويلها – سواء كانت دولية أو “إسرائيل”ية – والتي ستحتاج إلى التعامل مع التحديات الكبيرة التي رسمناها. لا نفترض أي شيء بخصوص هوية هذه الهيئة (المشار إليها فيما يلي باسم “الهيئة المُعادة بناءها”)، بل نركز على رسم خطة أولية للقضايا التي يجب أن تتعامل معها وتحديد المبادئ والدروس اللازمة لنجاح العملية. ج.2 مبادئ عامة التجربة التاريخية التي استعرضناها تكشف خمسة مبادئ عامة من جميع الحالات وتحتاجها لنجاح التحول:

الهزيمة الكاملة هي شرط للتحول وإعادة البناء الناجحة.

بدون هزيمة كاملة – بمعنى وقف القتال، وتفكيك القدرات العسكرية وإزالة النظام القاتل – لا جدوى من محاولة تنفيذ نزع التطرف، إعادة بناء الأنظمة، وبناء هياكل حكومية جديدة. في حالة حماس، تعني الهزيمة الكاملة تفكيك جيش الإرهاب التابع لحماس مقارنة بحالته في السابع من أكتوبر، وكذلك تفكيك قدراته الإدارية إلى مستوى غير مهدد من الفعالية. يجب أن تحدد هذه الدرجة من قبل النظام الأمني حسب التطورات على الأرض ويمكن أن تشمل، من بين أمور أخرى، إخراج كتلة حرجة أو أغلبية مطلقة من القوة العسكرية (قتلى وجرحى غير قادرين على القتال)، البنية التحتية للإنتاج ومستودعات الأسلحة، البنية التحتية تحت الأرض، وقدرات الحكم التابعة لحماس. تعلمنا التجربة التاريخية أنه بدون هزيمة كاملة – لا جدوى من محاولة تنفيذ نزع التطرف، إعادة بناء الأنظمة، وبناء هياكل حكومية جديدة. من المهم أن يتبنى الجمهور الفلسطيني أيضًا مفهوم الهزيمة الكاملة لحماس. التجربة التاريخية تعلمنا أن إعادة البناء تحت النار محكوم عليها بالفشل لعدة أسباب. أولاً، القتال يسحب الانتباه والموارد المخصصة لإعادة البناء؛ ثانيًا، إنه ينتقص من نجاحاتها: الإنجازات لا تحقق.

 

أن تترسخ، وفي النهاية تنهار. ثالثًا، الاستخدام الكبير للقوة العسكرية يميل إلى زعزعة الثقة في السلطة الحاكمة وصناعة احتكاكات مع السكان المدنيين، كما حدث في العراق وأفغانستان، وفي الواقع أيضًا في السنوات الأولى للسلطة الفلسطينية. سيخفف الهزيمة الكاملة لحماس من هذا التوتر بشكل كبير، لأنها ستقلل من نشاط الإرهاب إلى مستوى منخفض، وستلغي الحاجة إلى عمل عسكري مكثف يعطل نسيج الحياة للسكان المدنيين، وستسمح لآليات إعادة البناء والسلطة المحلية بالتأسيس. بالإضافة إلى ذلك، الهزيمة الكاملة ستظهر للعناصر التي تأمل/تتوقع عودة حماس إلى السلطة أن هذا السيناريو غير واقعي، مما قد يجذب المزيد من الجهات للبحث عن بدائل. ومع ذلك، من الممكن البدء في جهود إعادة البناء الأولية والأساسية في المناطق التي تم تطهيرها من حماس، حتى لو كان لا يزال موجودًا في أجزاء أخرى من القطاع. نافذة الفرصة للتحول وإعادة البناء قصيرة، ويجب التصرف بسرعة. شهدت ألمانيا واليابان احتلالًا مباشرًا قصير الأمد لبضع سنوات. في العراق وأفغانستان، كان الاعتقاد السائد أن السنوات الأولى كانت نافذة الفرصة للتغيير، وعندما فاتت هذه الفرصة بسبب الأخطاء التشغيلية والبنية التحتية – ضاعت عملية التحول. من هنا ينبع أنه يجب البدء في الإصلاحات لتحويل غزة فور هزيمة حماس، دون إضاعة الوقت الثمين. يتطلب إعادة بناء غزة وتحويلها، كما ذكرنا، هيئة إعادة بناء مدنية، وضيق الوقت يعني أنه يجب البدء الآن في التخطيط وإنشاء آلية فعالة ومتف. يجب أن تكون هذه الآلية متوافقة مع احتياجات السكان وعاداتهم وتتعامل مع المواطنين باحترام. هذا ليس فقط لأسباب أخلاقية وأخلاقية، ولكن أيضًا بسبب أهمية بناء علاقات ثقة مع السكان، وهي ضرورية لنجاح إعادة البناء وبناء أفق إيجابي لغزة. هذا درس مركزي من النجاحات والفشل السابقة. يجب أن تعتمد التقدم على تحقيق الأهداف وليس على جدول زمني صارم. بمجرد أن يفهم السكان أن هناك التزامًا بالمغادرة بحلول تاريخ معين، فإن النتيجة المتوقعة هي انهيار مماثل لما شهده الأمريكيون في أفغانستان. انسحاب دون القضاء على حكم حماس وبناء بنية تحتية حكومية وتعليمية بديلة سيفشل أي إنجاز. من الجدير بالذكر أنه لا يوجد تضارب بين الحاجة إلى التصرف بسرعة (البند 2) وبين الحاجة إلى ربط التقدم بالأهداف وليس بالمواعيد العشوائية. تنبع الحاجة إلى التصرف بسرعة من حقيقة أن التحركات في السنوات الأولى تميل إلى ترسيخ علاقات الأطراف. بدون عملية تخطيط عميقة ومنظمة تنفذ بسرعة، قد تتدهور هذه العلاقات إلى درجة يصعب إصلاحها. ولكن حتى لو نجحت العملية في البدء بسرعة وبطريقة جيدة، فلا يزال من الضروري ضمان إكمالها وفقًا لأهدافها. يجب بناء الروح، وليس المادة فقط، لأن التطورات المادية غالبًا ما تعتمد على التطورات الفكرية. لا يمكن لعملية التحول وإعادة البناء أن تكتفي بتدفق الموارد المادية – المال، المباني، البنية التحتية، الطعام أو الأدوية. هذه الموارد ضرورية، لكنها ليست كافية. يجب أن تشمل إعادة البناء والتحول لأمة اتبعت مسارًا قاتلًا إزالة الأساس القاتل من الثقافة الفلسطينية، وهو ما يمكن تحقيقه فقط من خلال معالجة أنظمة التعليم والدين والإعلام، بما في ذلك المحتويات. المفتاح للتغيير هو الاستمرارية. يبدو أن هذا متناقض في البداية، لكن جميع محاولات إعادة البناء والتحول، وخاصة الناجحة منها، بذلت جهودًا كبيرة في خلق سردية مستمرة للأمة المهزومة، سردية تسمح لها بالاعتماد على بعض عناصر هويتها مع تحويل الهوية نحو بناء وعدم عنف. يمكننا استعارة، يمكن التحدث عن متجه يجب الحفاظ على قوته ولكن يجب تغيير اتجاهه. هذا ممكن، لكنه يتطلب عملًا ثقافيًا وتعليميًا واسع النطاق وعميقًا وخلق أفق ملموس وإيجابي للأمة المهزومة. في الحالة الحالية، يجب الاعتماد على تقليد الإسلام لخلق التغيير المستمر مع إعطاء الأولوية للنسخ المعتدلة من الإسلام، وتزويد الفلسطينيين برؤية ملموسة وإيجابية للتمسك بها لحكم ذاتي فلسطيني منزوع السلاح في النهاية، والذي سيتحقق إذا (وفقط إذا) نجحت عملية التحول وإعادة البناء. يتطلب التحول الناجح اتخاذ قرارات عملية، بما في ذلك فيما يتعلق بأعضاء النظام القديم. لا يمكن البدء من الصفر – يمكن إدارة غزة فقط من قبل الأشخاص الذين لديهم خبرة في إدارتها. نجحت النجاحات في ألمانيا واليابان من تقييد الدافع لتطهير واسع النطاق لأعضاء النظام السابق، بينما جاءت الفشل في أفغانستان، وخاصة في العراق، من التطهير الواسع النطاق، مما أدى إلى انهيار مؤسسات الحكم وخلق فوضى واضطراب كانت أرضًا خصبة للعنف والإرهاب. لتجنب مصير مشابه في غزة، يجب إزاحة الطبقة القيادية والإدارية العليا في حماس وأولئك الذين لديهم دماء على أيديهم، وإظهار المرونة في دمج الطبقة المتوسطة والأدنى، “التكنوقراطية”، إلى جانب عشرات الآلاف من الموظفين من السلطة الفلسطينية الذين عملوا في القطاع حتى اندلاع الحرب. أولئك الذين سيكونون مستعدين لقبول التزامات الحكم الجديد لن يتضرروا بل سيكافأون. أولئك الذين يواصلون طريق الإرهاب – سيعاقبون بشدة.

 

عملية التحول وإعادة البناء مكلفة ومعقدة ولا يوجد ضمان لنجاحها.

هناك حاجة لتطوير استعداد عقلي وعملي لإمكانية الفشل – ووضع خطط بديلة. نحن نقترح تطبيق هذه المبادئ في الخطوات الملموسة التالية:

 

ج.3 خطوات ملموسة

تأسيس فوري لآلية فعالة للتعامل مع الأزمة الإنسانية في غزة من المهم تحقيق السيطرة في أسرع وقت ممكن على التعامل مع الأزمة الإنسانية في غزة لمنع المزيد من التدهور، الذي قد يؤدي إلى فقدان العديد من الأرواح، وانهيار النظام الاجتماعي وانتشار الأوبئة. السيطرة على الأزمة الإنسانية ضرورية أيضًا للتقدم في تحقيق أهداف القتال وحرمان حماس من رؤية وواقع كيان حكومي يهتم بالمواطنين. حتى مع تراجع حماس تدريجيًا كسلطة مدنية، لا يزال هناك خطر مؤكد من أنها ستسعى لتفعيل أحد أهم قواعد التجنيد الاجتماعي والسياسي لها – آليات الدعم المدني للدعوة. في المجتمع الفلسطيني، هناك أهمية تقليدية كب. على المدى القصير، يمكن ل”إسرائيل” تحقيق السيطرة على الأزمة الإنسانية من خلال وحدات الحكم الماهرة لديها في الاحتياط والخدمة النظامية كهيئة مدربة، تنظم وتشرف على تخصيص جميع الموارد المنقولة إلى القطاع. النموذج الحكومي الأكثر معقولية في رأينا على المدى القصير يجب أن يكون قائمًا على مراكز إدارة عسكرية وحكومية تتعامل مع المناطق أو “الفقاعات” المحلية. يتطلب نظام حكومي كهذا قوة عاملة “إسرائيل”ية صغيرة نسبيًا إلى جانب الاستفادة من عدة آليات رئيسية: أ. موارد المنظمات الدولية والموارد البشرية فيها، المتخصصة في التعامل مع الأزمة الإنسانية. يجب التصرف بحذر هنا، نظرًا للتعاون بين بعض موظفي هذه المنظمات مع حماس في الماضي، من جهة، وصعوبة إشراك المنظمات الدولية في العمل الإنساني في غزة، من جهة أخرى.

 

ب. 25-30 ألف موظف من السلطة الفلسطينية في غزة، الذين يستمرون في تلقي رواتبهم من السلطة الفلسطينية، وبقوا في وظائفهم في الآلية المدنية لحكومة حماس حتى بعد الانقلاب في عام 2007. المجالات الرئيسية التي يعمل هؤلاء الموظفون فيها هي الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم، وبعضهم يعملون أيضًا في البنية التحتية. هذه المجالات، التي كانت تعتبر أقل أهمية في نظر حماس مقارنة بمجالات الأمن التي سيطرت عليها، أصبحت في الوضع الحالي حاسمة – خاصة في السياق الإنساني ولاحقًا للحاجة إلى إعادة إعمار القطاع بشكل عام. يجب النظر ب. يفضل أن يكون مستوى الظهور للنشاط الإنساني مرتفعًا قدر الإمكان، مع مراعاة اعتبارات أمن العاملين في هذا المجال، بهدف حرمان حماس من أي وجود شبه حكومي أو تفعيل آليات الدعوة وغرس الفهم بأن الجهة المسؤولة قد تغيرت.

 

نزع التطرف من التعليم والثقافة يتطلب نزع التطرف في غزة العمل على المستوى التعليمي وكذلك على المستوى الثقافي الأوسع. الأمثلة الأكثر ملاءمة لذلك هي ألمانيا واليابان، حيث كانت الجهود في العراق وأفغانستان محدودة بشكل رئيسي في توسيع الوصول إلى النظام التعليمي وتحسين البنية التحتية والبيداغوجيا. ومع ذلك، فإن الفشل التراكمي والشامل في الدمقرطة في العالم العربي – سواء من خلال التحول من الخارج، كما تم تجربته في العراق وأفغانستان، أو من خلال السعي من الداخل، كما جرب في الربيع العربي وفشل بشكل مأساوي في كل دولة جرب فيها، يشير إلى أنه من الخطر الجمع.

 

نزع التطرف في الديمقراطية. النظام الديمقراطي الليبرالي هو طموح جدير، ولكن تحديده كهدف رئيسي للعملية قد يؤدي إلى فشلها. الشروط اللازمة لإقامة ديمقراطية ليبرالية مستقرة كثيرة، وتتطلب تغييرات اجتماعية عميقة ومؤسسات قوية ملتزمة بإنتاج وحفظ المنافسة السياسية والحقوق السياسية ونقل السلطة بطرق سلمية. حتى في ألمانيا واليابان استغرق الأمر سنوات طويلة حتى نشأت مؤسسات وقوى سياسية قادرة على إقامة وحفظ ديمقراطية مستقرة؛ في العراق وأفغانستان لم تصمد الديمقراطية حتى بعد سنوات طويلة من الاستثمار الكبير في تطويرها. أمام الهيئة المشرفة خياران ممكنان للتدخل، مستوحاة من إعادة بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: النموذج البريطاني، الذي يركز على الرقابة وما لا يجب فعله ويترك تطوير المواد التعليمية والثقافية الجديدة للقوى المحلية، ضمن حدود تحددها الهيئة المشرفة؛ والنموذج الفرنسي، الذي يطور ويدخل مباشرة المحتويات، الكتب الدراسية، المحاضرين، الثقافة وغيرها في النظام التعليمي والثقافة العامة؛ مع كشف الغزيين للثقافة والتاريخ الإسرائيلي، بهدف تطوير التعاطف، التشجيع على السلام، وردع العنف. خصوصية النموذج الأمريكي كانت في . للأسف، لا توجد دراسات تقارن بين نتائج النماذج المختلفة التي تم تبنيها في ألمانيا وتسمح باستنتاج أيها أكثر فعالية على المدى الطويل. نحن نقترح البدء بالاعتماد على القاسم المشترك بين النموذجين، والذي يتضمن:

 

 تطهير النظام من طبقة من المعلمين المتطرفين بشكل خاص، سواء في المدارس أو في مؤسسات التعليم العالي. يمكن القيام بذلك استنادًا إلى استبيانات مخصصة ومعلومات استخباراتية (بما في ذلك المعلومات العلنية، مثل الشبكات الاجتماعية). هنا أيضًا تعلمنا التجربة التاريخية أن التطهير لا يمكن أن يكون شاملًا، ويتطلب البراغماتية.

   

حظر جميع الكتب الدراسية الحالية وإخراجها بالكامل من الاستخدام. تطلبت كل من بريطانيا وفرنسا إيجاد بدائل حتى يتم تطوير كتب دراسية جديدة. أعادت بريطانيا استخدام الكتب الدراسية لجمهورية فايمار واستوردت فرنسا كتبًا دراسية من سويسرا. بالنظر إلى التطورات الإيجابية في الكتب الدراسية في الإمارات والسعودية، التي غيرت موقفها من “إسرائيل” (بعضها أقل وبعضها أكثر) وتدرس حاليًا قيم الاعتدال والتسامح بين الأديان، نوصي بأن تبدأ “إسرائيل” الآن بفحص شامل للكتب الدراسية في الدول العربية المعتدلة وتطوير توصيات في هذا الصدد. ب. كتب الدراسية في الدول العربية المعتدلة هي فرصة ذهبية لتحويل النظام التعليمي في غزة لأنها تحافظ على الرواية العربية الإسلامية، الأساسية للهوية ونمط الحياة في غزة، ولكنها تغير اتجاهها نحو التسامح وعدم العنف (التغيير من خلال الاستمرارية). بالإضافة إلى ذلك، نوصي بدمج العناصر الفلسطينية المؤيدة للسلام في تكييف الكتب الدراسية والبرامج التعليمية للسياق الفلسطيني، ضمن إطار تحدده الهيئة المشرفة. يجب التأكيد على أن تدخل “إسرائيل” في القضايا التعليمية يجب أن يكون الحد الأدنى، وأن فرص النجاح هي الأعلى إذا تمكنت “إسرائيل” من. بالإضافة إلى الأساس الأدنى الموضح في الخطوتين الأوليين، نوصي بالخطوات الثلاث التالية:

 

إنشاء لجنة من الخبراء في التعليم والثقافة الفلسطينية لدراسة طرق لتعريف السكان الفلسطينيين – ليس فقط في المدارس – بالتاريخ والثقافة الإسرائيلية واليهودية بهدف تطوير التعاطف وتشجيع التسامح والسلام (الجوانب التي وجدت جميع التقارير التي فحصت الكتب الدراسية الفلسطينية أنها مشكلات ونقص، انظر هنا وهنا). هذا مشروع تحدي ومن المبكر القول ما إذا كان يمكن المضي قدمًا بنجاح، لكن الفائدة المحتملة تبرر النظر.

 

إنشاء هيئة للإشراف على التحريض والتطرف في المدارس، حركات الشباب، التعليم غير الرسمي، والتعليم العالي، ولهذا الغرض ستقوم بدراسة الوضع الحالي في الأنظمة المختلفة والوضع الذي كان قائمًا فيها عشية الحرب، وتحديد النقاط والممارسات المشكلة، ووضع خطة فعالة للإشراف والتدخل، إذا لزم الأمر. يجب أن يكون هذا التدخل حذرًا ومحدودًا لمنع التحريض على العنف والإرهاب، وإلا قد تنحدر الهيئة المشرفة إلى الرقابة، مما يثير الاضطراب، ويدمر إنجازات التحول.

 

إنشاء مجلس إعلامي ينظم وسائل الإعلام الجماهيرية – الراديو، التلفزيون، مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية – ويتأكد من عدم وجود تحريض على العنف والإرهاب. في القرن الحادي والعشرين، لا يمكن الرقابة والإشراف على برامج الإذاعة والتلفزيون كما فعلت الحلفاء في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، لكن يمكن العمل ضد التحريض على الجهاد والإرهاب – كما ذكرنا، بحذر وبشكل محدود لهذا الغرض. يجب أن يتكون آخر جهازين – المشرف على التحريض في النظام التعليمي والمجلس المنظم لوسائل الإعلام الجماهيرية – من عناصر فلسطينية معتدلة، عناصر من الدول العربية المعتدلة وربما أيضًا عناصر دولية. من المستحسن أن لا تضم هذه الأجهزة “إسرائيل”يين، حتى لا يُنظر إليهم كمتعاونين، بل يجب أن تكون “إسرائيل” متورطة بشكل غير مباشر ويمكنها أن تفرض حق الفيتو في حالات مهمة خاصة. في الختام، لتحقيق النجاح في تحويل غزة إلى كيان غير عنيف، يجب تبني وتنفيذ سياسة تعليمية تختلف تمامًا عن تلك الموجودة حاليًا فيها. حتى الآن، لم تصر “إسرائيل” على الإصلاحات التعليمية في الاتصالات الإقليمية والدولية المتعلقة بالنزاع. في رأينا، يعد تغيير السياسة في هذا الموضوع أمرًا ضروريًا نظرًا للمخاطر غير المقبولة الناجمة عن الكراهية العميقة المتجذرة في النظام التعليمي الفلسطيني، التي شهدناها في هجوم 7 أكتوبر وفي الدعم العام الواسع الذي حصل عليه في غزة وفي المجتمع الفلسطيني ككل. علاوة على ذلك، فإن التغييرا. إن نجاح هذا التغيير، وفي أسوأ الأحوال فشله، سيكون أحد اختبارات النجاح لمدى نجاح عملية التحول. 3. بناء البنية التحتية المؤسسية للتحول وإعادة إنشاء حكومة مؤقتة قبل إنشاء إدارة مدنية دائمة لتحقيق النجاح في التحول وإعادة بناء السكان في غزة، يجب إنشاء سلطة حكومية مدنية هناك؛ وهذا ما تم في جميع عمليات التحول وإعادة البناء السابقة. كما ذكرنا، في المرحلة الحالية، التحدي الإداري المدني الرئيسي هو إنساني، ولهذا السبب نوصي بأن تقوم “إسرائيل” بإنشاء – من المفضل بالتعاون مع الحلفاء والعناصر المحلية المعتدلة – حكومة مؤقتة تتعامل في البداية مع الاحتياجات الإنسانية العاجلة للسكان المدنيين في المناطق التي تم تطهيرها من حماس – الغذاء، والطب، والمأوى، وكل جانب آخر من جوانب المساعدة الإنسانية. لا يمكن لقوات “إسرائيل” أن تنظم ولا تنفذ بالإضافة إلى ذلك، من الأفضل أن تسعى “إسرائيل” للانتقال في أقرب وقت ممكن من موقع التنفيذ إلى موقع التنظيم، خاصة إذا كانت مضطرة لأخذ دور مركزي في الهيئة المُعادة بنائها (يجب أن نفترض أنه إذا تم إنشاء الهيئة المُعادة بنائها من عدة دول، فإن دور “إسرائيل” فيها سيكون أقل بروزًا من البداية). الانتقال المبكر إلى وضع المنظم مرغوب فيه نظرًا للعديد من الرواسب، وعدم الثقة، والمرارة تجاه “إسرائيل” في غزة. سيؤدي الانخراط المفرط ل”إسرائيل” إلى تدمير جهود التحول، حيث سيُنظر إلى منفذي الإصلاحات كمتعاونين وليس كعملاء تغيير حقيقيين. في الماضي، كلما نصبت “إسرائيل” أو دعمت الحكام المحليين، مثل رؤساء البلديات، سرعان ما تم اعتبارهم متعاونين (“عملا”) وعانوا من الاحتجاجات والتلفيات في الممتلكات وحتى الأرواح (مثلًا خلال الانتفاضة الأولى). هذه أيضًا دروس مركزية من الفشل في العراق وأفغانستان. في رأينا، فإن اعتماد نهج تنظيمي، يقول “ما لا” بدلاً من نهج تنفيذي، يحدد “ما نعم”، سيقلل من هذا الخوف. على وجه الخصوص، من المستحسن أن تقلل “إسرائيل” من تدخلها المباشر في تعيين، ودفع، وتوجيه العناصر المحلية (الـ “ما نعم”) لتقليل احتمال وصفهم بالمتعاونين. لا يمكن معالجة هذه المشكلة بشكل كامل، ولكن من الضروري تقليل الخطر منها قدر الإمكان. يجب أن تُعتبر المؤسسات المدنية وقيادتها السياسية مؤسسات وطنية شرعية من وجهة نظر الفلسطينيين لتحقيق مهامها. يجب أن يكون لدى الفلسطينيين رؤية وطنية إيجابية للبناء منها ومعها. يجب أن يشمل التنظيم أثناء إعادة البناء والتحول:

 

إخراج حماس والمنظمات الإرهابية المعروفة الأخرى عن القانون، وكذلك الانضمام إليها ودعمها.

 

الإشراف على تنفيذ برامج التحول، إعادة البناء والمساعدات الإنسانية؛

 

الإشراف على الجوانب الأساسية للإدارة السليمة. يجب أن تكون هناك حذر في هذا المجال. من ناحية، الفساد، إذا تطور، سيجعل المؤسسات الجديدة مكروهة من قبل السكان ويقوض جهود إعادة البناء. هذه نقطة سلبية كبيرة من العراق، أفغانستان، ومن السلطة الفلسطينية نفسها. من ناحية أخرى، تميل التدخلات الخارجية لمنع الفساد إلى أن تُفهم على أنها أبوية، مما يثير في حد ذاته الاستياء والمعارضة.

 

حظر المؤسسات الجديدة من تقديم تمويل مخصص لعائلات الإرهابيين، ومنع التمويل المقدم من السلطة الفلسطينية، قدر الإمكان، على غرار السياسة المطبقة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. التمويل يشجع ويضفي الشرعية على الإرهاب ويؤدي إلى استمرار العنف.

 

مراقبة دقيقة للعناصر الخارجية التي ستصل إلى القطاع. التجربة تعلمنا أنه في كل مرة كادت “إسرائيل” أن تدمر البنية التحتية العسكرية لحماس في المناطق، جاءت عناصر من الخارج أعادت بناء التنظيم (مثل موسى أبو مرزوق والقيادة التي عملت في الولايات المتحدة في التسعينيات). في هذا السياق، يجب مراقبة تحويلات الأموال من الجمعيات الخيرية والمنظمات الخيرية، تهريب الأموال، الأسلحة والذخيرة، وكذلك دخول “العقول” – التي يمكن أن تعيد بناء الدعوة أو البنى التحتية العسكرية.

إنشاء إدارة مدنية فلسطينية دائمة يجب إنشاء مؤسسات مدنية تنفيذية لتنفيذ عمليات التحول، ويجب أن يكون الموظفون في الغالب من سكان غزة وتدار من قبلهم. على المستوى المحلي، يجب مراعاة العشائر الكبيرة والمركزية، وعدم اتباع سياسة “فرق تسد” من خلال تحريض هذه ضد تلك وعدم إعطاء وضع مميز لإحداها على الأخرى، لتجنب إثارة التوترات القبلية والعشائرية. هذا أيضًا درس مركزي من الفشل في العراق. درس شامل من جميع الحالات التي استعرضناها هو أن يكون هناك براغماتية في التعيينات والسماح للموظفين الذين عملوا تحت حكم حماس في المستوى المتوسط، والذين لم يكونوا مشار. في نفس الوقت، يجب منع حماس من إعادة تشغيل شبكة الدعوة – الخيرية والرفاهية، ويجب منع حماس من القدرة على الحصول على الفضل في أعمال إعادة الإعمار، والرفاهية، والصدقة، والمساعدة، والدين – أي عمل يمكن أن يمكنها من العودة إلى قلوب السكان، كدرس من أفغانستان.

 

إزاحة الأونروا من القطاع يجب استغلال أعمال إعادة البناء لدفع الأونروا خارج القطاع، نظرًا لمشاركة أفراد حماس في آلية الأونروا إلى جانب نشاطهم كمقاتلين في حماس، والتحريض المستمر على العنف والإرهاب في مؤسساتها والحماية الواسعة والمنهجية التي تقدمها لمستودعات الأسلحة التابعة لحماس، والتقارير الكاذبة التي تصدرها الأونروا بشأن الوضع في القطاع وخدمتها المتحيزة لصالح حماس بشكل عام. نظرًا لإعادة بناء مؤسسات محلية يقودها فلسطينيون وتهدف إلى إعادة الإعمار، والتوطين، والتحول، يمكن بناء حجة قوية تبرر نهاية طريق الأونروا في القطاع. ستقوى.

 

إشراك الدول العربية المعتدلة في نشاط الهيئة المُعادة بنائها كما ذكرنا، من المستحسن أن تشكل “إسرائيل” شراكة دولية لإعادة بناء القطاع – ويفضل أن يشمل الكونسورتيوم دولًا عربية معتدلة، لتوفير الشرعية للعمل، وتحسين فرص نجاحه، ودمج القطاع والفلسطينيين في محور جيوسياسي بديل لمحور حماس-حزب الله-إيران. حتى إذا لم ترغب الدول العربية المعتدلة في تحمل جزء من إدارة القطاع، مع المسؤولية والالتزامات المرتبطة بذلك، يمكن دمج الإمارات، ومصر، والمملكة العربية السعودية في إدارة وتنفيذ بعض الإصلاحات، مثل الإصلاحات التعليمية والدينية. إلى جانب السعي إلى الشراكة في إعادة بناء غزة، يجب على “إسرائيل” أن توضح لشركائها في الشرق الأوسط وخارجه أنها ستشرف على إعادة بناء وتحويل غزة حتى بدون مثل هذا التعاون. كما ذكرنا أعلاه، فقط استعداد “إسرائيل” للعمل بمفردها يمكن أن يضمن لها تعاونًا كبديل للاحتلال الإسرائيلي. يجب أن توضح “إسرائيل” أنها لا ترغب في السيطرة الدائمة على غزة. لكنها ستخرج من هناك فقط عندما يثبت كيان آخر نفسه كجاهز لتنفيذ التغييرات اللازمة، وأنها تحتفظ بحق العودة إلى غزة في حالة فشل عمليات التحول. بهذه الطريقة، سيكون هناك حافز للدول ال. من المهم التأكيد على أن مشاركة الدول العربية المعتدلة ليست بديلاً عن الحاجة إلى الإدارة المحلية.

 

تطوير القيادة البديلة وإنشاء شرعية دينية إسلامية لتحويل غزة البعد الديني الإسلامي متشابك بشكل جوهري في المجتمع الفلسطيني. هذا لا يعني بالضرورة أن جميع الفلسطينيين ملتزمون بالشريعة الإسلامية، هناك أيضًا فلسطينيون مسيحيون، وهناك نطاق واسع من الالتزام الديني، لكن بشكل عام، الإسلام هو جزء مركزي من التركيبة الفلسطينية، خاصة في غزة. الشعبية العالية التي حصلت عليها حماس على مر السنين مرتبطة، وفقًا لخبراء، بهويتها الإسلامية والتزامها المعلن بالشريعة. لا يمكن تجاهل مركزية البعد الديني في السياسة الفلسطينية ولا يجب أن ننكره. كدرس إيجابي من اليابان وسلبي من أفغانستان، من المستحسن إنشاء شرعية إسلامية لجهود التحول وإعادة البناء في غزة، إذا أردنا ضمان نجاحها. المشكلة هي أنه من الصعب العثور على رجال دين يحظون بالإجماع في المجتمع الفلسطيني ويمكنهم أن يصبحوا قادة دينيين في اليوم التالي. بقدر ما يوجد رجال دين مستعدون للمشاركة في تحويل المجتمع الفلسطيني نحو الاتجاهات غير العنيفة والاعتراف ب”إسرائيل”، فهم ليسوا حاليًا في مواقع التأثير. في ضوء هذه الظروف، نوصي بما يلي:

أ) تعيين البدائل القيادية الممكنة لحماس، بما في ذلك الدينية، وتقييمها في أقرب وقت ممكن.

ب) جذب رجال الدين السنيين المستعدين للاعتراف ب”إسرائيل” من الإمارات والبحرين والسعودية والجناح الجنوبي للحركة الإسلامية، وإشراكهم في عملية التحول وإعادة البناء، بما في ذلك عمليات التغيير في النظام التعليمي. هذه الدول قامت بتغييرات جوهرية في أنظمتها التعليمية فيما يتعلق بالعلاقة مع “إسرائيل” واليهود ووضعت نهجًا دينيًا إسلاميًا متسامحًا يتم غرسه أيضًا في التعليم غير الرسمي والمساجد. يجب الاستفادة من هذه الموارد التعليمية والدينية في هذا السياق.

ج) إنشاء أكاديميات للقيادة على نموذج قديم قائم في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، للسماح بنمو جيل جديد من القادة، الذين سيكونون راسخين بعمق في التراث الإسلامي السني، وهو مهد ثقافة المجتمع الفلسطيني، وفي نفس الوقت سيكونون مرتبطين بنسخته الأكثر اعتدالًا. ستنشأ هذه الأكاديمية وتعمل برعاية دول الخليج وستضم قادة سياسيين ودينيين من المجتمع الفلسطيني الذين لا يرتبطون بشكل واضح بالقيادات السياسية القائمة – فتح وبالتأكيد ليس حماس. يمكن دمج رجال الدين في البرامج لتمكينهم كقادة المستقبل وخلق تكامل بينهم وبين القادة السياسيين.

د) تجنب الطموح لفرض روح ثقافية أخرى، غربية / ليبرالية / غير إسلامية، على السكان. كما ذكرنا، لم تنجح جهود الديمقراطية في العراق وأفغانستان على المدى الطويل، ولم تسفر الحركة الديمقراطية في العالم العربي التي نمت بشكل عضوي، دون تدخل عناصر أجنبية، عن إقامة أنظمة ديمقراطية مستقرة في أي دولة عربية في منطقتنا (مصر، ليبيا، تونس، وغيرها).

 

استعادة وإعادة بناء النظام الاجتماعي في القطاع لضمان نجاح جهود التحول وإعادة البناء، يجب إعادة النظام الاجتماعي إلى القطاع، الذي تضرر بشدة في الحرب، ومنعه من الانحدار إلى الفوضى والأناركية. قدر الإمكان، يجب القيام بذلك بطريقة تمنع تكرار أو نمو الشبكات الاجتماعية التي استندت إليها حماس تقليديًا. تستند الشبكات الاجتماعية في غزة إلى علاقات الأسرة والعشيرة، وحي السكن، والمسجد، وحركات الشباب، وحتى مكان الأصل للاجئين قبل عام 1948، والعلاقات والجوار التي تعبر الأجيال. تعني هذه الشبكات هيكلًا اجتماعيًا وسياسيًا غير رسمي يولد الثقة والولاء بين أعضائها و. خلال الحرب، تعرض النظام الاجتماعي لخمسة اضطرابات رئيسية: أ. حركة العديد من السكان إلى مناطق ملاذ مؤقتة تم تحديدها من قبل “إسرائيل” وفقًا لتطور الحملة، مما يكسر علاقات الجوار التي تستند إليها الشبكات والتقسيم الإقليمي التقليدي. ب. تدمير المنازل والمباني العامة والبنية التحتية، مما يجعل من الصعب على السكان إعادة بناء الشبكات الاجتماعية بعد انتهاء القتال، نظرًا لتحويل العديد من الأحياء أو أجزاء منها إلى أماكن غير صالحة للسكن. ج. وفاة عشرات الآلاف من سكان القطاع، العديد منهم من المسلحين، ولكن إلى جانبهم العديد من المدنيين الذين لم يشاركوا في العمليات الإرهابية، مما يؤدي إلى ديناميكيات جديدة على جميع المستويات: الأسرية، العشائرية، بين المنظمات، وغيرها. د. فقدان قدرة حماس على الحفاظ على حكم مركزي، محلي وأمن داخلي، نظرًا لاقتلاع الهياكل الشبكية والإقليمية وانتشارها في مناطق مؤقتة مختلفة. هـ. ضائقة إنسانية وجوع أدت إلى مظاهر فوضى، ونهب الطعام والمساعدات الإنسانية، والمشاجرات العنيفة. من المتوقع أن تعمل الشبكات الاجتماعية على إعادة تنظيم نفسها بشكل أقوى بعد انتهاء القتال، نظرًا لحاجتها في الأوقات الصعبة، وسيسعى السكان للعودة إلى بيئتهم السابقة وإعادة بناء حياتهم هناك. في هذه العملية، الضرورية بحد ذاتها، هناك أيضًا خطر، لأنه من المحتمل أن تعمل حماس على تجديد شبكة الدعوة والإرهاب من خلال هذه الشبكات. يؤدي اضطراب النظام الاجتماعي إلى مجموعة من الاحتمالات، في نهايته المتفائلة ينشأ في غزة نظام اجتماعي جديد، يولد أساسًا لنمو مجتمع معتدل وغير عنيف، مثل ألمانيا واليابان؛ وفي نهايته المتشائمة، الذي ينشأ فيه قوى عنيفة من إنتاج حماس أو منظمات أخرى/جديدة، مثل العراق وأفغانستان، وتسمح لهم في نهاية المطاف بالسيطرة على الحكم. في هذا الواقع، توصيتنا هي العمل وفق المبادئ التالية:

 

أ. توخي الحذر الشديد فيما يتعلق بالشبكات الاجتماعية – الزلزال الاجتماعي في القطاع كبير جدًا بالفعل اليوم، ويضع غزة على حافة الفوضى والانهيار الاجتماعي. يجب تجنب خلق اهتزازات لا تفرضها أهداف الحرب، من أجل الحفاظ على القدرة على إعادة بناء وتحويل غزة في اليوم التالي للحرب. بمعنى آخر، يجب اتخاذ الحد الأدنى من الخطوات اللازمة لمنع تكرار الشبكات الحمساوية الواضحة، ولا أكثر. ب. إنشاء آليات جديدة للشرطة والأمن الداخلي – حتى مع افتراض أن “إسرائيل” ستضطر إلى الاحتفاظ بالمسؤولية الأمنية في القطاع في المستقبل، فإن الشرطة والأمن الداخلي تحديات مختلفة عن التحدي الأمني وتتطلب معالجة خاصة وفورية ليست عسكرية. ينبغي إنشاء تدريجيا حراس مدنيين محليين في مخيمات النازحين والأحياء التي ستخضع لعملية إعادة الإعمار. من المهم استبعاد عناصر حماس من القوة الجديدة قدر الإمكان، لكن التجربة من ألمانيا واليابان تشير إلى أن التفكير في تطهير قوة الشرطة الجديدة من كل من شارك في شؤون الشرطة تحت حكم حماس. منع قدر الإمكان الحفاظ على/إعادة إنشاء مخيمات اللاجئين – التجربة تعلمنا أن مخيمات اللاجئين تشكل الأساس الاجتماعي، الشبكي، السياسي وحتى الأيديولوجي لحماس. المخيمات لا تسمح بالتغيرات الفكرية والاجتماعية وتجمّد وضع الفلسطينيين الذين يعيشون فيها عند نقطة منخفضة تميل إلى التمرد والإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، الهيكل الفوضوي والمكتظ للمخيمات يجعل من الصعب القيام بعمليات أمنية ومكافحة الإرهاب. نوصي بتدمير بنية مخيمات اللاجئين من الأساس وبناء أحياء منظمة بدلاً منها، تضمن ظروف حياة لائقة، تعود إليها العائلات الغز. إعادة تنظيم المستويات الإقليمية والبلدية – يجب موازنة الأهمية بين إعادة بناء الشبكات الاجتماعية الداعمة، التي تشكل أساس النظام الاجتماعي، والحاجة إلى منع حماس من استعادة قوتها. التغييرات الأخرى التي أوصينا بها – إخراج حماس من القانون، إزالة الطبقة القيادية والإدارية العليا لحماس، استيعاب الطبقات الوسطى بموجب قانون أخلاقي وإداري جديد، إصلاحات واسعة النطاق لنزع التطرف، إلخ – تجعل من الصعب على حماس استعادة قوتها في جميع الجوانب. سيعزز ترتيب إداري إقليمي جديد ذلك، كما فعل الحلفاء في ألمانيا واليابان. بدلاً م. نعتقد أن الهدف الاستراتيجي لعملية إعادة البناء، التي قد تكون طويلة، هو دمج قطاع غزة والفلسطينيين عمومًا في ثقافة عربية وإسلامية معتدلة وبديلاً للثقافة الجهادية الحالية، كما حدث في اليابان وألمانيا. من المحتمل أن تكون ثقافة محافظة اجتماعيًا، دينية وفلسطينية، لكنها متصلة بالمحور الجيوسياسي المعتدل لدولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وليس بالمحور الإمبريالي الإرهابي لإيران وحلفائها. هذا الهدف لا يزال بعيدًا، وتحقيقه ليس مضمونا على الإطلاق، ولكن يجب أن يكون نصب أعين صانعي القرار.

 

 

د. الخلاصة

هذا المستند يهدف إلى استخلاص الدروس التاريخية من أربع حالات اختبار لـ “تحويل الأمة” التي تتمتع بثقافة عسكرية، قتالية، وخطيرة على محيطها – الإصلاحات في ألمانيا، اليابان، العراق، وأفغانستان – مع محاولة التعلم من النجاحات والإخفاقات على حد سواء. جوهر مقترحاتنا مفصل في الملخص التنفيذي ولأجل الإيجاز لن نعيده هنا مرة أخرى.

في الختام، نؤكد مرة أخرى أن مقترحاتنا تستند إلى تحليل تاريخي مقارن لاستخلاص منه الدروس للحاضر، مع مراعاة السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي المختلف من مكان إلى آخر. في كتابة هذا المستند، اعتمدنا على معلومات عامة، لكن لا نملك معلومات كاملة حول الوضع الحالي في غزة ومجال العمل الإسرائيلي والإقليمي والدولي. من الواضح أن الصورة الكاملة للمعلومات ضرورية لتطبيق مثالي لدروس الماضي على الحاضر وأن غيابها يحد من قدرتنا على تقديم توصيات دقيقة وكاملة. طوال المستند، طرحنا أسئلة وفجوات، فإن الإجابة عليها ستحسن الق. نأمل أن تكون صورة المعرفة التي قدمناها للقراء في هذا المستند، إلى جانب النهج التحليلي لاستخلاص الدروس وتوضيح تطبيقها على صورة المعلومات العلنية، مفيدة في صياغة خطة دقيقة وكاملة بناءً على معلومات مفصلة، شاملة ومحدثة. بالطبع، يسعدنا أن نقدم الدعم في أي عملية تفكير تستند إلى هذا البحث.

 

الملحق:

الجوانب القانونية والدبلوماسية لإنشاء هيئة إعادة إعمار لضمان النجاح في تحويل وإعادة بناء السكان في غزة، يجب إنشاء سلطة حكومية مدنية هناك. من الناحية القانونية، هذا يعني أنه يجب إنشاء حكومة عسكرية في غزة وإدارة مدنية، تحت قوانين الاحتلال والقانون الدولي. كما ذكرنا سابقًا، نحن لا نتخذ موقفًا بشأن التركيبة السياسية لمثل هذا الكيان، وبالطبع من المستحسن والمفضل أن تحصل “إسرائيل” على تعاون دولي وشرعية دولية لأي خطوة من هذا القبيل. في هذا الملحق، نحن نتناول بإيجاز وليس بشكل شامل التحديات السياسية والقانونية لإنشاء هيئة إعادة إعمار مباشرة من قبل “إسرائيل” وطرق التعامل معها الممكنة. قد تساعد هذه المعلومات “إسرائيل” في المفاوضات حول إنشاء هيئة إعادة إعمار مع حلفائها، في تعزيز مواقفها في الجوانب القانونية والدبلوماسية.

 

إمكانية أن تقيم “إسرائيل” إدارة مدنية في قطاع غزة وتشغل مباشرة جهود إعادة الإعمار والتحول تعتبر تحديًا كبيرًا، سواء من الناحية السياسية أو القانونية. من الناحية السياسية، كما أشرنا في نص المستند، فإن حلفاء “إسرائيل” لا يتوقون إلى فكرة أن تعود “إسرائيل” لإدارة غزة. قد تجد “إسرائيل” صعوبة في التصريح بخطوة كهذه نظرًا لانسحابها من غزة في عام 2005، والضغوط المستمرة لإقامة دولتين، واعتبار الاحتلال في نظر العالم، وخاصة حلفاء “إسرائيل” المحتملين، كـ “عودة إلى الوراء”. من الناحية القانونية، فإن قوانين الاحتلال في القانون الدولي تلزم القوة المحتلة، وفقًا للتفسير المقبول، بالحفاظ على الوضع الراهن في الأرض المحتلة، مما يمنع المحتل من القيام بإصلاحات واسعة للتحول وإعادة إعمار السكان. الفكرة هي أن المحتل من المفترض أن يحافظ على المنطقة بأمانة وبشكل مؤقت حتى يتم إعادتها إلى السلطة الشرعية، كجزء من نظام عالمي يتألف من دول ذات سيادة، تقبل بالقانون الدولي وحق وجود بعضها البعض، ولا تسعى إلى تدمير بعضها البعض. لا يوجد أي من مكونات هذه الفكرة في الصراع بين “إسرائيل” وحماس، التي ليست د. نحن نفترض أن التحدي القانوني والتحدي السياسي قد يكونان متشابكين في المناقشات الدبلوماسية حول مستقبل غزة في اليوم التالي، وأن النقاط التالية قد تكون مفيدة للتعامل مع كلاهما في الحوار/المفاوضات مع حلفاء “إسرائيل”: أولاً، الحاجة إلى إقامة حكومة خارجية لها سلسلة من السوابق: أنظمة الاحتلال في ألمانيا، اليابان، العراق، وأفغانستان، التي أنشئت بعد وضع قوانين الاحتلال وشملت إصلاحات تحول وإعادة إعمار واسعة النطاق. في كل من هذه الحالات، كما رأينا، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتغييرات نظامية وعميقة تهدف إلى تغيير نظام الحكم والتعليم والثقافة في الأرض المحتلة، على الرغم من أن الدول المحتلة كانت ذات سيادة. والأحرى أن ينطبق هذا على غزة، التي ليست دولة ذات سيادة، والسلطة التي حكمت فيها تظهر جميع السمات التي أدت إلى فرض أنظمة احتلال في الماضي لتحويل وإعادة إعمار. يُشار إلى أنه في مناطق حرب أخرى، تم إنشاء هيئات إعادة إعمار خارجية لإدارة المنطقة بعد انتهاء القتال، والتي أحيانًا كانت تُطلق عليها أسماء أخرى، مثل إدارة مؤقتة للأمم المتحدة التي عملت في كوسوفو من عام 1999 إلى 2008 كحكومة مؤقتة، وتعمل حتى اليوم بسعة محدودة. مثل هذا النموذج الدولي – الذي يعمل بموجب قرار الأمم المتحدة – سيحظى بطبيعة الحال بشرعية دولية أكبر بكثير من قوة “إسرائيل”ية فقط، لكن الحاجة إلى إقامة حكومة خارجية يتم استنتاجها من هذه الأمثلة أيضًا. ثانيًا، يمكن ل”إسرائيل” الاستفادة من الدروس السلبية من العراق وأفغانستان والإشارة إلى أن الانسحاب السريع من منطقة توجد فيها دافع قوي لإعادة تنظيم الجهادية وقدرات الإرهاب فيها لم تُقضَ، يعادل كارثة اجتماعية وأمنية. كانت الولايات المتحدة قادرة على إعادة قواتها عبر المحيط وعدم تحمل التداعيات الأمنية للتخلي عن العراق وأفغانستان لقوى الإرهاب، لكن “إسرائيل” لا تستطيع ترك مواطنيها عرضة لمصير عودة حماس إلى السلطة، وبنفس القدر لا يمكنها التخلي عن الحدود مع مصر، التي يمكن أن يدخل من خلالها جهاديون جدد ومدربون يستغلون. ثالثًا، كما أشرنا سابقًا، لا يوجد حاليًا أي كيان فلسطيني لديه القدرة المؤكدة على تنفيذ مشروع إعادة إعمار وتحول بنجاح يفي بالأهداف المتمثلة في تعليم السلام، ونبذ العنف والإرهاب، والكفاءة الأمنية والإدارية. السلطة الفلسطينية فاشلة من الناحية الإدارية، وتعاني من الفساد، وتعلم كراهية “إسرائيل” وليس السلام، ولا تتنكر للعنف والإرهاب. قد توجد داخل غزة عناصر قيادية يمكن أن تتعامل مع التحدي، لكن هذه العناصر ستحتاج إلى التدريب والدعم والمساعدة في جميع المجالات – الإنسانية، والبنية التحتية، والتعليم، والشرطة، والاقتصاد. يجب أن يحكم أحدهم الأرض لمنع الإرهاب وحماس من العودة مرة أخرى ولتنفيذ مشاريع إعادة إعمار وتحول واسعة ومكلفة بنجاح. إذا لم يتم العثور على كيان قادر على القيام بذلك بكفاءة وعلى المدى الطويل، فلن يكون أمام “إسرائيل” خيار سوى تحمل المسؤولية عن الأرض، مع السعي للعثور على عناصر فلسطينية يمكنها تولي الإدارة المدنية في أسرع وقت ممكن. رابعًا، على المستويين الدبلوماسي والقانوني، يمكن ل”إسرائيل” أن تشير إلى أن الاحتلال مطلوب كجزء من خطة منظمة لتحويل وإعادة إعمار غزة وبالتالي يمثل خطوة أولى نحو حكم ذاتي فلسطيني يمكن أن يوفر، بخلاف الخطوات الأمنية السابقة في غزة وغيرها، أفقًا إيجابيًا حقيقيًا للفلسطينيين من الاستقلال منزوع السلاح والقبول في أسرة الأمم. هذا التحليل أولي فقط ولا يستنفد التحديات القانونية والسياسية للعملية، التي هي كبيرة. في هذا المستوى أيضًا، يجب بدء عمليات تحقيق وبحث وفحص شاملة لفهم مجموعة الخيارات.