الإمارات تشرد عفر إريتريا وتعصف بحياتهم وتتفنن في إذلالهم::
(شهادة) – بعد أن ظل منغرسا في الأرض كنخيله، ضاربا جذوره في أعماق قريته الوديعة مكعكع (شمال ميناء عصب)؛ تحول الأربعيني الإريتري عبد الرحيم محمد عبد الله إلى كائن لا ظل له ولا قرار، بعد أن شرده الإمارات وصادر منه كل شيء، حتى أحلامه.
كان عبد الله ملك النخيل بواديه ذي 250 نخلة، مخلوقا له أصول، له جذور وله هدف، وبات يحس بأنه ريشة في مهب الريح على حد تعبير الروائي السوداني الطيب صالح، بعد أن طُرد من أرضه وتناوشته سهام الضياع والتشريد في قرى إثيوبيا.
“فجأة ومن دون سابق إنذار، قبل سنتين، جاءتنا القوات الإماراتية وطردتنا من أرضنا، ولم تنفع توسلاتنا ولا شكوانا للحكومة الإريترية ولم يعوضنا أي من الطرفين”.
جنون وصدمات
يصف عبد الله، وله أيضا أحواض ملح مترامية الأطراف، ما حل به بأنه “كارثة، أن أقتلع من أرضي التي ورثتها أبا عن جد؛ لم يفعل بنا الاستعمار الإثيوبي ولا الإيطالي مثل ذلك”. ويقول إن الإيمان بالله عصمه من أن يفقد عقله، مثل ما حصل لكثيرين من أبناء عمومته وأقاربه ممن أصيبوا بالجنون أو بجلطات نتيجة الصدمات النفسية.
لم تكتف الإمارات بذلك، بل طاردتهم في مهاجرهم الجديدة، مدينة عصب، التي نجحوا في التحول فيها مع الوقت إلى صيادين صغار، بل شنت حربا لا هوادة فيها على مراكب الصيد والصيادين، وقتل من هؤلاء خمسة من أبناء أعمامه وعماته، ويضيف “الإمارات طاردتنا في البر والبحر”.
وأمام انغلاق فُسح الأمل أمامه اصطحب الرجل مع آخرين أولادهم ونساءهم وتاهوا في براري إريتريا وعبروا الحدود على أقدامهم على وقع إطلاق نار من الجنود الإريتريين. ويعلل اصطحاب الأسر في رحلة خطرة كتلك بالخوف عليهم من السجن أو التغريم خمسين ألف نقفة إريترية (3280 دولارا) عن الهارب الواحد، وفقا للقانون الإريتري.
ولذا، لا يريد إبراهيم محمد عمر (28 عاما) ولا علي محمد نور (26 عاما) ولا علي حسين أحمد (20 عاما) الهاربون خلال الشهور الثلاثة الماضية من منطقة عصب وما حولها -بعد تدمير ممتلكاتهم وخوفا من التجنيد الإجباري- الظهور في الصورة، لأن أهلهم ما زالوا هناك.
أرقام وخرائط
ويقدر حقوقيون إريتريون عدد من شردتهم الإمارات من قرية مكعكع وحدها بأنهم ألف، وفروا إلى إثيوبيا وجيبوتي، وحتى إلى اليمن الغارق في الحرب، فضلا عن آلاف آخرين ممن كانوا يعتمدون عليها بواحاتها وسباخها (ملاحاتها) الوفيرة كما يطلق عليها السكان.
ونتيجة اتفاق أبرمته قبل سنتين مع نظام الرئيس أسياس أفورقي، احتلت الإمارات ميناء عصب ومنطقة مكعكع شماله بنحو عشرين كيلومترا، فضلا عن جزر أخرى متفرقة بجانب الإسرائيليين -الذين عسكروا في جزيرة دهلك قبالة جزيرة فرسان السعودية- والإيرانيين الموجودين في جزيرة فاطمة قرب باب المندب وجزيرة حالب على بعد 28 كيلومترا فقط من ميناء عصب.
ويقول التنظيم الديمقراطي لعفر البحر الأحمر إن حكومة أفورقي تجني خمسمئة مليون دولار سنويا من تلك القواعد، “بينما صاحب الحق والأرض لم يستفد شيئا سوى مزيد من المطاردات والحصار والجوع والقتل المستمر”.
ولإخلاء الأرض لقواعدها العسكرية على الأرض وفي البحر، مارست الإمارات التشريد والقتل، متعللة أحيانا بالخوف من تعاون بعض الصيادين الإريتريين مع الحوثيين.
يحكي لنا طه إبراهيم طه من مدينة عِدّي شمال عصب عن هلعه بعد قتل الطائرات الإماراتية قبل ستة شهور ستة من أبناء عمومته وتدميرها كل مراكب الصيادين، حيث اقتصر الأهالي على الصيد بالصنارات بعد مصادرة سلطات أسمرة كل شباك الصيد، وفر إلى إثيوبيا قبل خمسة أشهر، حيث قابلناه.
ويتحدث علي محمد نور، القادم فرارا من إريتريا قبل شهر ونصف الشهر فقط، عما لقيه من أهوال بعد سجنه ومصادرة أملاكه لممارسته مهنة الصيد التي حظرتها سلطات أسمرة نهائيا قبل تسعة أشهر بميناء عصب بطلب من الإمارات، كما يقول.
تعذيب عرب
وفر من السجن -وفق روايته- بعد اتفاق مع عسكري كان يحرسه وهرب معه إلى إثيوبيا، وهو -أي العسكري- الآن في معسكر “أيساعيتا” للاجئين الإريتريين على بعد سبعين كيلومترا شرق سمرا، ويقول إنه إبان وجوده في السجن الصحراوي الذي تديره أسمرة ويشرف عليه جنود إماراتيون كان يسمع تعذيبا مستمرا لا يعرف على من يمارس، ويقول إنه كان بين المعتقلين “عرب” يرجح أنهم يمنيون.
ويتحدث نشطاء حقوقيون عن وجود سجون إماراتية سرية كثيرة في إريتريا، وتحدثت عنها سابقا وكالات أنباء كأسوشيتد برس ومنظمات حقوقية عالمية مثل هيومن رايتس ووتش.
ولا يملك الشاب إبراهيم محمد عمر القادم قبل شهرين إلى إثيوبيا أي وسيلة للمقاومة إلا قول “حسبنا الله ونعم الوكيل على الإمارات”، بعد أن جرفت آلياتها العسكرية 12 نخلة بمنطقة مكعكع كانت هي مورد رزق عائلته الوحيد.
كما يتحدث علي حسين أحمد القادم قبل ثلاثة شهور عن مصادرة الإمارات “كل أحواض الملح التي كان يملكها والدي وحتى المنتج الذي حصدناه على مدى فترة، دون أي يعوضونا ولا حتى نقفة واحدة”. ويضيف رأيت بعيني الجنود الإماراتيين -بمساعدة الجيش الإريتري- يصادرون ممتلكات عشرات العائلات.
وحوش بشرية
ويصف محمد عمر الجنود الإماراتيين (أو من يفترض أنهم كذلك) بأنهم “وحوش؛ يمارسون الغطرسة والإذلال على الشعب المسكين، ويعاملوننا كأننا حيوانات”.
ويتفنن الجنود الإماراتيون في إذلال السكان، ويرفض هؤلاء حتى رد السلام ويقابلونه بالاستهزاء والسخرية، وفق شهادة للناشط الشبابي إبراهيم أحمد وطابقتها شهادات أخرى من عدد كبير من الإريتريين ممن التقيناهم في سمرا وأديس أبابا.
ويقول إبراهيم محمد عمر “حينما نطلب منهم الماء المحلَّى ونحن عطشى في أرض مسبخة يرفضون، وقد يرمون لك قنينة في الأرض فإن سعيت إليها بادروا بتفحيط سياراتهم ليملؤوا وجهك بالأرض ويذلوك”.
ويقول طه إبراهيم طه “الإماراتيون يأتون ليسكروا فوق الشعب الفقير، حتى فضلاتهم يرفضون إعطاءها للأطفال ويرمونها في القمامة”.
وبلغ هؤلاء من “الوقاحة” -بحسب تعبير علي أحمد أرديتو (32 عاما)- أنهم يطلبون منا إحضار بناتنا لهم، وحتى الأطفال الصغار رووا لنا قصصا مؤلمة، ويبدو أن الجراح التي خلفتها الإمارات في ذاكرة الإريتريين عصيّة على الاندمال.
المصدر : الجزيرة