أجمل ذكرياتي: الحياة تحت ظلال الشريعة

لقد كان ذلك اليوم حين فاجأنا الوالد بخبر عودتنا إلى الديار بعدما نزحنا عنها لمدة ثلاث سنوات بسبب قصف وجرائم قوات الحبشة الصليبية. وقد كنا كغيرنا من الشعب الصومالي الذي عانى كثيرا من همجية هؤلاء الغزاة قد ارتحلنا بعيدا. ولما سمعنا خبر العودة كان وقعه وتأثيره مختلفا على أفراد العائلة. وأتذكر أخي الأكبر الذي عارض فكرة أبي لأنه وكما أخبرنا الوالد كنا سننزل في خارج العاصمة في منطقة تسمى “عيلشا” والتي نزح إليها معظم سكان العاصمة ريثما تهدأ الأمور وتعود إلى نصابها، فالأحباش الآن خرجوا من البلد وهناك هدوء نسبي ما عدى بعض المناطق في مقديشو.
ولا أخفيكم أنني كنت أشعر بسعادة كبيرة لأنني وأخيرا سأجرب حياة البادية لأول مرة ولصغر سني فقد كنت أتوقع أننا سوف ننزل في عريش ونسكن منطقة نائية حيث يوجد الجمال والرمال والآبار، ولم تكن تعجبني حياة المدن والعمارات ومظاهر الفسوق فطرة.
أخذ الوالد قراره أخيرا بالرجوع بدون أخي الأكبر طبعا الذي كان متخوفا على دراسته ومستقبله وكان محقا في ذلك.
وجاء اليوم الموعود وسافرنا إلى البلد وهبطنا في المطار يوم الحادي عشر من ديسمبر وقد تفاجأنا بالقوات الأجنبية الكثيرة، والطريق من المطار إلى عيلشا كان متعبا جدا، فقد مررنا بأكثر من نقطة تفتيش، وكانت نقطة إكس كنترول أفجوي هي الأصعب لأنها الخط الفاصل بين مناطق سيطرة الحكومة ومناطق سيطرة المجاهدين. تخطينا هذه النقطة بعد تفتيش دام لأكثر من نصف ساعة والحمد لله دخلنا لمناطق سيطرة المجاهدين وعندما وصلنا لأول نقطة، تم إيقاف السيارة من قبل شاب ملثم نظر إلى داخل السيارة وسألنا من أين جئتم؟ فأخبرناه أننا جئنا من الخارج فابتسم وقال: “مرحب بكم في دياركم حيث تسود الشريعة”.
وقد ذهلت من فرق المعاملة بين الجنديين، فالأول كان يشهر علينا سلاحه ويقول: “أنتم ذاهبين لمناطق الشباب لكي تنضموا إليهم وتقدموا لهم هؤلاء الأطفال لكي يفجروا أنفسهم علينا” ويتوعدنا بعد ذلك. والآخر رحب بنا وطمأننا وقد كان سلاحه في كتفه ولم يرفع علينا ناهيك عن أنه لم يسمعنا التوعد والسب.
وصلنا إلى بيتنا الجديد ولم يكن كما كنت أتوقعه فقد كانت فيلا بخمس غرف وحمامين وفناء كبير جدا وهناك بدأ شطر جديد من حياتي.
لقد عشت في تلك المنطقة أجمل سنتين من حياتي، فقد كنت أعيش في منطقة تحكم فيها الشريعة وتقام فيها الحدود، لقد اندثرت مظاهر الفساد الأخلاقي فلا تسمع أصوات الغناء ولا المعازف المزعجة والجميع ملزم باللباس الشرعي سواء كنت رجلا أو امرأة، فالأمر لم يكن مقتصرا على النساء كما كان يروج له البعض.
 لقد كانت المساجد ممتلئة بالرجال في أوقات الصلاة وكان رجال الحسبة يقومون بدوريات قبل الصلاة بدقائق، وتتوقف الحياة لأداء هذه الشعيرة العظيمة والتي هي المفصل بين المسلم والكافر ويعم الهدوء ولا تكاد تسمع شيئا غير نداءات الصلاة وياله من مشهد جميل أن يتوقف الضجيج ويدوي صوت الآذان فقط ويستجيب الجميع لنداء المنادي للقاء الله سبحانه والصلاة، ثم تعود الحياة لمجراها ويذهب كل شخص في حال سبيله.
 وفي يوم من الأيام كنت ذاهبا إلى مدرسة التحفيظ وإذا بسيارة صغيرة فوقها مكبر صوت يعلن أنه غدا مساءا سوف يقام حد من الحدود على أحد الجناة في ميدان يبعد عن بيتنا بضع كيلومترات، وهذهكان أول مرة اسمع عن هذا الشيء فالأمر كان عندي نظريا فقط ندرسه في المدارس فقط. وها قد جاء الموعد المحدد وقد كان مساء يوم الخميس بعد صلاة العصر مباشرة. فذهبت للميدان مع أصدقائي لنشاهد ما الذي سوف يحدث وما نوع الحد الذي سوف يقام. ما أن وصلنا إلى الميدان حتى ذهلت من كثرة الحاضرين بالألوف، معظمهم لم ير شيئا كهذا من قبل والأغلب جاء من أجل محاضرة أحد مشايخ الجهاد المعروفين لا أذكره بالضبط ربما الشيخ فؤاد خلف. بدأت المحاضرة وقد كان الشيخ يتكلم عن مكارم الأخلاق وكيف حثّ عليها الإسلام واستمرت  المحاضرة لنصف ساعة تقريبا. أدركت من خلالها الحد الذي سوف يقام هو حد الزنا وقد جيء بالزاني إلى نصف الميدان فقرأ قاضي محكمة ولاية بنادر نص الحكم مقرونا بأدلة حد الزنا، لقد قرأ الآيات من أوائل سورة النور والرجل لم يسبق له الزواج ولم يكن محصنا فعقابه كان مئة جلدة، ثم إني لصغر سني وقلة علمي آنذاك بدأت أمقت الرجل قبل تنفيذ الحكم عليه ولكن وبعد إقامة الحد عليه بمائة جلدة سلم له أحد الرجال المحتسبين المايك ليتكلم للناس عما حدث حيث صرّح أنه جاء من تلقاء نفسه للمحكمة لأنه لم يعد يتحمل وزر ما اقترفه، وأنه أراد أن يكون صادقا في توبته فطلب إقامة الحد عليه، وللحظة تغير شعوري تجاه هذا الرجل التائب، فبدأت أحبه وزال عني الغضب تجاهه. والمطلوب من المؤمنين أن لا يبغضوا على إخوانهم العصاة الذين تابوا، فتوبة أحدهم الصادقة قد تكفي من كان حاضرا في هذا الميدان المزدحم وقد انتهى ذلك اليوم المليء بالعجب والذهول.
كانت الحياة مزدهرة جدا وزاد الإنتاج المحليـ فقد منعت معظم الهيئات الإغاثية التي تعمل فقط في أوقات حصاد الزرع المحلي فيوزعون محاصيل رديئة الجودة بالمجان، ليتسبب ذلك في خسائر كبيرة للمزارعين المحليين، لقد منعت هذه الهيئات من ممارسة خبثها آنذاك وقد حفزت حركة الشباب المزارعين ووفرت لهم إمكانيات لم تكن موجودة لديهم، فازدهرت الزراعة وكان خير دليل على ذلك أسواق عيلشا، حيث كانت تتوفر كل أنواع الخضروات والفواكه اللذيذة بشكل كبير ومستمر. عكس ما يحدث الآن فقد سمحت لتلك الهيئات بمزاولة أعمالها بحرية مطلقة وبدون أدنى رقابة وتم استيراد بعض المحاصيل المزروعة في هذا البلد وبكثرة كالموز من دول خارجية كمصر، وهذه والله مصيبة عظيمة، فالمزارعين خسروا كثيرا ولم يعد باستطاعة كثير منهم الاستمرار في عمله، فاضطر أن يمد يده لتلك الهيئات التي قضت على فرص عمله. وقد قرأت بعض التقارير التي تقول أن الأراضي الزراعية لو استغلت بالشكل المناسب لاستطاع الصوماليون أن يطعموا دول شرق إفريقيا وليس الصومال فقط. والجدير بالذكر أن هذا من قطوف تحكيم الشريعة المباركة، فهي من تحارب الفساد والمفسدين وتراعي المصلحة العامة قبل الخاصة.
ومرت الأحداث بسرعة وتغير الكثير وزاد السكان في منطقتنا وشاء الله أن ينشئ المجاهدون مركز شرطة قريبا من بيتنا وكنت معجبا جدا بهم كحال غيري ممن يسمع ببطولاتهم وصولاتهم في الساحات، فكنت أمر من أمامه في الصباح الباكر ذاهبا إلى المدرسة وأسمع أصواتهم، فبعضهم يقرأ القرآن والبعض الآخر لديه دورة شرعية وكان هناك ثقب في آخر الجدار، وقد كنت في بعض الأحيان أسترق النظر إليهم من خلاله لرؤية نشاطاتهم، وانتهى بي المطاف أن أمسك بي أحدهم وسألني ماذا أفعل هنا؟ فأخبرته بأنه يعجبني ما تقومون به في الصباح فأخذني إلى الداخل وسمح لي بمشاهدة التمارين وبعض النشاطات اليومية وأخبرني قبل أن أذهب من هناك أن لا أعاود ما فعلته فهذا خطر علي، وكان هناك رجل أكبر من الشباب ودعاني إليه وأعطاني كتيبا صغيرا يتكلم عن التوحيد وشروطه ونواقضه وأخبرني أن أرجع في وقت لاحق من الأسبوع. وحدث ذلك في يوم الخميس. فقرأه علي، وحفظت نواقض الإسلام ومعنى التوحيد وشروطه على يد ذلك الرجل. لقد أحببته حقا ثم أخبرني أنه سيسمح لي بدخول المركز في الصباح والمساء، وبعدها قمت بزيارات متعددة لهم وكانوا يرحبون بي في كل وقت وصرت محبوبا هناك.
واستمرت هذه الحياة الجميلة إلى بدايات عام 2012 حيث انسحب المجاهدون انسحابا استراتيجيا من هذه المناطق وعدنا إلى العاصمة وياله من فرق بين حكم الشريعة وحكم الديمقراطية. فقد خلعت النساء الحجاب الشرعي واستبيحت المعاصي وصار الفساد هو السائد ورجعت القبلية بعد أن كانت منتهية وانتشرت الفاحشة وصار الجو موحشا لمن في قلبه إيمان ومن عاش في ظل حكم الشريعة.
إنني اليوم اشتاق لتلك الأيام الخوالي ولا أملك الكلمات للتعبير عن مدى تشوقي لعودة الشريعة ويعم الخير والصلاح في أرضنا وأعيش تلك اللحظات التي عاشها أمرؤ القيس حينما قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب منزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
نعم أعيش هذه اللحظات عندما أقوم بزيارة تلك المنطقة وبكائي الآن ليس للديار فقط بل لشريعة كانت تسودها وراية مكتوب عليها لا إله إلا الله، وشباب كانت تتمثل فيهم كل معاني العز والإباء، مقدمين حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، على ما سواهما، ملتزمين بشرعه قبل أن يطبقوه على الآخرين. لقد كانت نظرتي لهم تختلف عن الآخرين فقد كنت أنظر إليهم على أنهم أبطال يحمون أعراضنا ويستميتون دفاعا عن شريعتناـ لا يضرهم من خذلهم وتتبع عيوبهم وافترى عليهم ظلما وبهتانا.
أسأل الله أن يجعلهم مخلصين في أعمالهم ويغفر لهم زلاتهم فهم في الأخير بشر يخطؤون ويصيبون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هارون الصومالي