العلاقات السودانية الإثيوبية: استقرار رغم الاختلاف:
تقرير خاص لوكالة شهادة الإخبارية:
(شهادة) – لم يكن مستغربا أن يصدر أول بيان مساند لحكومة الإئتلاف الإثيوبي من جانب الحكومة السودانية عقب استقالة هيل ماريام دسالين من منصب رئاسة الوزراء الإثيوبية. كما لم يكن غريبا أن تأتي لغة البيان لتؤكد على الدعم التام والكامل من حكومة السودان للحكومة الإثيوبية. ذلك أن البلدين يرتبطان بتحالف قوي وتبادل للمصالح حاسم ، وأي اضطراب يضرب بأحد الطرفين يعني اضطراب التحالف وضرب هذه المصالح.
البيان المؤازر لم يكن هو الرد الوحيد من حكومة السودان على حالة الاضطراب في الساحة الإثيوبية بل أعقبته زيارات من وفود حكومية سودانية متتالية إلى أديس أبابا للاطمئنان على صلابة نظام الحكم عند الجارة الأهم في الخارطة ولمد يد المساعدة لحفظ هذه الصلابة.
وهكذا كشفت الاضطرابات الأخيرة في إثيوبيا عن مشهد تحالف قوي يجمع السودان مع إثيوبيا، يبدو أن خلفه الكثير من المكاسب التي يتمتع بها البلدان رغم الاختلاف الإديولوجي والتاريخي بينهما.
تاريخ العلاقات السودانية الإثيوبية
يرجع عمق العلاقات السياسية بين السودان وإثيوبيا إلى أكثر من 5000 عام قبل الميلاد ولعل أبرز سبب لعراقة هذه العلاقات كان الحاجة المشتركة لنهر النيل، والتي لا تزال مستمرة إلى عصرنا اليوم.
في حين يسجل التاريخ الحديث اسم عثمان خالد كأول سفير للسودان لدى إثيوبيا في عام 1897 والذي يجعل من السودان في قائمة البلدان الأوائل التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إثيوبيا. إلا أن هذه العلاقة لم تصل للجدية المطلوبة إلا بعد استقلال السودان لتأخذ منحى أكثر قوة ابتداء من عام 1956.
وفي عام 1991 سجلت أول زيارة رسمية للرئيس السوداني عمر البشير لإثيوبيا استجابة لدعوة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ملس زيناوي لتوقيع جملة من الاتفاقيات بين البلدين تدفعها مصالح الموقع الجغرافي وزيادة الحاجة لإقامة علاقات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية تكفل استمرار الارتباط السوداني الإثيوبي.
ونتيجة هذه الاتفاقيات وجدت إثيوبيا – البلاد التي تفتقد لسواحل بحرية- وجدت في ميناء بور تسودان متنفسا دائما مهما لتأمين ممر مائي لحركة التصدير والاستيراد التي تمثل عصب التجارة الخارجية لإثيوبيا.
ولكن وبالرغم من توقيع الكثير من الاتفاقيات بين البلدين وفي العديد من المجالات، إلا أن مستوى التنفيذ لهذه الاتفاقيات يصنف متدنيا، ويرجع هذا التدني للبيروقراطية التي أضعفت قدرات النظامين الحاكمين لتطبيق بنودها والاستفادة منها.
الصراع بين محورين في المنطقة
لم يكن الإهتمام التركي بمنطقة شرق إفريقيا بدون تداعيات على حكومات المنطقة وجوارها، فقد أثارت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “التاريخية” إلى السودان في 24 من شهر ديسمبر 2017، والتي أدت إلى التوقيع على اتفاق جزيرة “سواكن” مع الحكومة السودانية أثارت ضجة كبيرة خاصة في الأوساط الإعلامية المصرية والسعودية والإماراتية. والتي ألقت باللوم على الحكومة السودانية للسماح للنفوذ التركي بالتغلغل في المنطقة.
نفوذ لم يكن ليتجاوز ضرورة التقارب مع إثيوبيا بصفتها لاعبا مهما في المنطقة يقف اليوم في صف السودان ترجمه الجانب التركي بتقديم عرابين الصداقة والود للحكومة الإثيوبية بل وتقديم المساعدة في بناء سد النهضة المثير للجدل بتسخير المؤسسات التركية لتسريع مراحل بنائه ما يعد ضربة استفزازية لمصر.
ولا شك أن هذا الرفض للدور التركي من قبل المحور السعودي المصري الإماراتي الذي ضم إرتيريا أيضا جاء كرد فعل طبيعي للتنافس المحموم الذي يعرفه هذا المحور مع المحور التركي القطري، والذي بدوره تمكن من كسب التحالف السوداني في صفه وكذا الإثيوبي وهذا ما أكدته زيارة الرئيس السوداني البشير إلى روسيا – الراعي البديل الجديد عن الولايات المتحدة الأمريكية في ساحة التنافس الدولي-، فضلا عن التعاون العسكري الجديد الذي جمع بين تركيا وقطر والسودان .
أزمة سد النهضة والتحالف الإثيوبي السوداني في وجه مصر
وأيا كانت التفسيرات وراء هذه التحركات فمن الواضح أن المحورين قد تمايزا وتباينت مواقفهما وأن إثيوبيا والسودان وقفا معا ضد مصر على الأقل في مشروع سد النهضة. وهو التحالف الذي جعل من موقف مصر ضعيفا جدا ومهددا.
ومن المنطقي أن تخشى مصر من تداعيات بناء السد الذي سيؤدي تشغيله إلى تأثيرات سلبية على حصتها من مياه النيل، ويهدد بتدمير مساحات من الأراضي الزراعية الهامة لديها، فضلا عن التسبب في أزمة في مياه الشرب التي لن تكفي عدد سكانها الذي يتجاوز 100 مليون نسمة، لا زالوا يعانون من نقص في الموارد المائية. مع إصرار إثيوبيا على رفض المطالب المصرية بتأمين السدس من ثروة النيل المائية لصالح مصر.
وتشير التقارير إلى اتخاذ إثيوبيا احتياطات بفرض حظر جوي يمتد إلى داخل العمق السوداني، وتجهيز مقاتلات إف 16 الاعتراضية على أهبة الاستعداد، بينما تسلم السودان طائرات السوخوي 35 الروسية ذات الإمكانات العالية فضلا عن قيام الحكومة السودانية أيضا بالتنسيق مع إثيوبيا بشكل مستمر وفق اتفاقية دفاع مشترك بينهما. لتعكس هذه الإجراءات جدية الصراع بين الطرفين.
السودان في صف إثيوبيا
وهو الصراع الذي لم تخفي فيه السودان مساندتها لإثيوبيا علنا، ما يفسر ربما اعتذار البشير عن زيارة مصر مرتين خلال أقل من شهر واحد، وبدلا من ذلك قام بزيارة إثيوبيا للمشاركة في احتفالاتها بأحد أعيادها القومية في التوقيت ذاته.
ولكن السيسي أدرك أن التمادي في القطيعة يعني خسارة العلاقات بين البلدين فاستمر في قرع باب البشير حتى زاره الأخير في 19 مارس واستمرت زيارته يوما واحدا فقط، ويبدو أن الهدف من اهتمام السيسي بزيارة البشير يرمو لتهدئة الاحتقان الذي عرفته علاقات البلدين مؤخرا، وهو الاحتقان الذي تسببت فيه قضايا خلافية منها حلايب وشلاتين وأبو رماد الحدودية، والموقف من سد النهضة الإثيوبي، وقد لقيت الزيارة ترحيبا مصريا كبيرا واحتفى بها الإعلام المصري بشكل ملحوظ، وهو الإعلام الذي سبق وأن شنّ حربا شعواء على السودان في فترة غير بعيدة..
ويجدر الإشارة إلى أن السودان سحبت سفيرها لدى القاهرة في 4 يناير/كانون الثاني الماضي دون إعلان سبب واضح للاستدعاء آنذاك وقد عاد من جديد لمنصبه قبل أيام.
من جهته علق الرئيس البشير على الاتفاق العسكري مع إثيوبيا قائلا وبكل صراحة :” إن الأمن القومي الإثيوبي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي السوداني. ” وأكد أن أي تهديد لأمن إثيوبيا هو تهديد مباشر لأمن السودان.
كما وضح أكثر موقف السودان من سد النهضة الذي يثير حفيظة المصريين قائلا: “نحن متفقون حول سد النهضة الإثيوبي الذي سيمد السودان وإثيوبيا بالطاقة الكهربائية”.
أما إبراهيم غندور وزير الخارجية السوداني ، فاعتبر أن السد “سيمكن السودان من استخدام كامل حصته في مياه نهر النيل التي كانت تمضي لمصر على سبيل الدين منذ 1959”. في إشارة إلى أن السودان لم يكن يستخدم كل نصيبه من مياه النيل وفق اتفاقية مياه النيل السابقة الموقعة في القاهرة في نوفمبر /تشرين الثاني 1959، ما جعل مصر المستفيدة الأولى من هذه الحصة على حساب السودان سواء في مواسم الجفاف أو الفياضانات.
وهكذا يشكل هذا التوتر بين دولة المنبع إثيوبيا ودولة المصب الأولى السودان من جهة ودولة المصب الثاني مصر من جهة أخرى، أحدا أسباب المخاوف الدائمة من اندلاع ما يُسمى بحروب المياه في المنطقة كون الثروة المائية ثروة حياتية يدخل المساس بها في دائرة التهديد للأمن القومي للبلدان.
استنفار عسكري
ولعل أحد أبرز صور الاحتدام لهذا الصراع، ظهرت ملامحها حين أعلن البشير حالة الطوارئ في البلاد بعد إرسال مصر تعزيزات عسكرية لإريتريا وإغلاق الأخيرة حدودها مع السودان وحصول نظام أفورقي الإريتيري – العدو اللدود لإثيوبيا- على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر المصرية في وقت سارعت فيه إثيوبيا لتشديد الحراسة على سد النهضة الذي يقع على الحدود السودانية الإثيوبية، وفرض حضر للطيران على المناطق المحاذية للحدود الإريتيرية، وفيما فسر بعض المحللين حالة الاستنفار السوداني كنتيجة طبيعية لخشية الحكومة السودانية من تهديد عسكري محتمل من مصر انطلاقا من أراضي إرتيريا يدفعه سخط مصر من موقف السودان الحليف لإثيوبيا وتركيا، إلا أن البعض الآخر رأى في التحركات المصرية رسالة مباشرة إلى إثيوبيا تلوح بالرفض المصري لمشروع سد النهضة الذي سينطلق في العمل خلال العام الجاري 2018، وقد ذهب بعض المحللين لأبعد من ذلك حين فسروا التحركات العسكرية المصرية كرسالة إلى قومية الأورومو المسلمة مفادها أن مصر مستعدة لدعم حراكها، وهي القومية التي تعلن معارضتها للائتلاف الإثيوبي الحاكم وأدخلت البلاد مؤخرا في حالة من التشنج والاحتقان بسبب المظاهرات والاحتاجات الدامية التي أجبرت دسالين على الاستقالة، ولا زالت تطالب بتغييرات جذرية في تركيبة الحكم الإثيوبي رافضة سياسة التهميش والقمع والاستبداد التي تعرضت لها هذه القومية تحت حكم أقلية التيجري المتسلطة.
بين الاستقرار والتشنج
لا يعني التحالف السوداني الإثيوبي المستقر حاليا أن العلاقات بين البلدين كانت دائما منسجمة ومتفقة، بل مرت بمراحل مختلفة تباينت فيها منحنياتها بين الاستقرار والتشنج، وقد استقرت العلاقات السودانية الإثيوپية أغلب فترة حكم رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي (1991– 2012) الذي اعتمدت سياسته على تغليب مصالح إثيوبيا في علاقاته مع الخارج، ولكن هذا الاستقرار لم يأتي إلا بعد صراع كبير بين البلدين المتجاورين طوال فترة حكم الدرگ في 1974، والرئيس منكستو هايله مريم ( 1977-1991).
ولعل من أبرز مراحل التوتر بين البلدين هي تلك التي عرفتها السودان وإثيوبيا حين دعمت الأخيرة متمردي جنوب السودان بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان وزاد الطين بلة الوجود الإثيوبي الكثيف في السودان في تلك الحقبة.
أسباب الاستقرار وحقيقة الدعم الغربي
ويُرجع بعض المحللين السبب في استرجاع العلاقات بين البلدين لتدخل قوى خارجية دولية كان من مصلحتها الإبقاء على استقرار العلاقات مع السودان رغم اختلاف الرؤى والإديولوجيات وتصادم المصالح، وذلك بهدف حماية الحكومة الإثيوبية “المسيحية” ومنعها من السقوط مثلما سقطت حكومة الصومال بسقوط محمد سياد بري.
مع العلم أن الصومال يعتبر أكثر تماسكا اجتماعيا وعقديا ولغويا مقارنة مع إثيوبيا، ما يعكس قدرته على العودة والنهوض من جديد بهويته الإسلامية في حين أن سقوط الحكومة النصرانية في إثيوبيا يهدد بصعود المسلمين وباستلام دفة قيادة الحكم من قبل مسلمي إثيوبيا. وهذا كفيل بأن يضع نهاية للهيمنة النصرانية التي دامت في هذه المنطقة لأكثر من ألف وخمسمائة عام.
وهذا أيضا يفسر دعم الغرب للرئيس الإشتراكي منقستو هايلاماريام ضد خصمه محمد سياد بري رغم أن الحقبة كانت حقبة الحرب الباردة وأن الرجلين كلاهما كانا يتبنيان المنهج الشيوعي، ولكن الفرق بينهما كان في الآفاق المستقبلية للصومال الذي كان حينها يمتلك أقوى جيش في المنطقة. وفي إمكانية استرجاعه المناطق الصومالية المحتلة في إثيوبيا وكينيا التي لا يتردد سكانها في التعبير عن رغبتهم في الانضمام من جديد للصومال الأم كأمثال ثوار الأوجادين ويبقى على رأس هذه الآفاق الهيمنة الإسلامية على المنطقة.
وهذه المخاوف ذاتها هي التي غذت ميولات حكومة إثيوبيا التي يضم نسيجها الاجتماعي شريحة غالبة من المسلمين تفوق الـ 60% وفي نفس الوقت تحيط بها شعوب مسلمة من عدة جهات، غذت ميولات إثيوبيا نحو خيار تحسين العلاقات مع السودان، رغم توجه هذه البلاد الإسلامي. توجه أثار جدلا دوليا كبيرا وتسبب في حصار استمر طويلا إلى أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا رفعه عن السودان.
ولا شك أن الدعم الغربي الذي تتلقاه الحكومة الإثيوبية من الولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت أكثر من مليار دولار سنويا كمساعدات خارجية لإثيوبيا والاتحاد الأوروبي الذي دفع نفس المبلغ سنويا لمدة حوالي العشرين عاما فضلا عن جملة من التسهيلات الاقتصادية الأخرى. لدعم النظام المتهم بالديكتاتورية واحتكار السلطة من قبل أقلية صغيرة لا تمثل أغلبية الشارع الإثيوبي ، واستعماله العنف والاستبداد لإحكام قبضته على البلاد. لا شك أن هذا كله جاء ليوضح حقيقة أكذوبة الحرية والديمقراطية التي تتحجج بالسعي لإقامتها الدول الغربية في مناطق الصراع.
ثم إضافة لتلك المخاوف من هيمنة إسلامية على المنطقة، خشيت إثيوبيا من أن يتم تحالف سوداني مصري ضدها ، في وقت تعاني منه من صراع مرير مع جارتها العنيدة إريتيريا. فحرصت إثيوبيا لهذه الأسباب وغيرها، على عدم الدخول في مواجهة مع السودان مهما كانت درجة العداء والخلاف الإيديولوجي لتتمتع في المقابل بالمزايا الاقتصادية وتضمن بقاء الهيمنة “المسيحية” في سلطة أديس أبابا رغم الغالبية المسلمة داخلها ومن حولها.
علاقة إثيوبيا مع الحركة الشعبية لتحرير السودان “المعارضة”
لم يكن متوقعا أن تدعم إثيوبيا الحركة الشعبية لتحرير السودان من جديد بعد محاربتها وطردها من جنوب غرب إثيوبيا مع بدايات وصول الجبهة الثورية للشعب الإثيوبي للحكم في أديس أبابا في مايو1991م خاصة وأن التهمة كانت علاقة الحركة بنظام الحكم المنهار، وقد انتهى الأمر بإبعاد الحركة الشعبية إلى داخل حدود السودان، ولكنها في الأخير حظيت بدعم الحكومة الإثيوبية الجديدة.
ويجدر الإشارة إلى أن هذه الحركة وصلت إلى تحقيق الكثير من المكاسب خلال الفترة الممتدة بين 1986- 1989، حيث لم يعد للحكومة السودانية سوى مناطق محدودة في جنوب السودان على رأسها المدن الثلاثة الكبرى، كما أن الحركة استطاعت أن تتمدد شمالا في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. وهذا قبل أن تنطلق ثورة الانقاذ الوطني في 1989 والتي أعقبها سقوط نظام الدرق الإثيوبي بعد عام من ذلك وحدوث مواجهات بين النظام الجديد والحركة الشعبية في جنوب غرب إثيوبيا وبداية مرحلة انحسار نفوذ الحركة.
ومع ذلك ما لبثت أن أعادت قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان علاقتها مجددا مع إثيوبيا بعد أقل من عامين من تاريخ وصول السلطة الجديدة إلى أديس أبابا .
ما أدى إلى تغير ملحوظ في موقف الحكومة الأثيوبية تجاه الحركة الشعبية منذ ذلك التاريخ وحتى انفصال جنوب السودان في 2011 حيث شهدت العلاقة بين الطرفين تنسيقاً واضحا خفت فيه وتيرة التأييد العسكري الظاهر ولكن استمرت المساندة الدبلوماسية واللوجستية إلا في فترات قليلة مثل تلك التي أعقبت محاولة اغتيال حسني مبارك في 1995 بأديس أبابا.
إثيوبيا وجنوب السودان
كما أن إثيوبيا ساندت قيام دولة جنوب السودان ، وسعت إلى الفصل ما بين إسلاميي السودان وإثيوبيا ومابين إسلاميي السودان والصومال، وعملت على محاولة دمج السودان في محيط القرن الإفريقي ومشكلاته المتعددة والابتعاد به عن قضايا الشرق الأوسط ومصر ، وهي ملامح استراتيجية تصب في مجرى المصالح الغربية في المنطقة وخارجها.
السياسة الإثيوبية المزدوجة
وما يجدر الإشارة إليه هو تلك السياسة المزدوجة التي اتخذتها إثيوبيا مع السودان ومعارضيها ، فقد تمكن مليس زيناوي الذي شدد قبضته على إثيوبيا بسياسة الحديد والنار زهاء عشرين عاما ، تمكن من إقامة علاقة متوازنة مع السودان لسنوات طويلة ، لدرجة أنه لم يتردد في دعم الرئيس السوداني ضد محكمة الجنايات الدولية ، وفي نفس الوقت حرص على إقامة علاقات استراتيجية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان “المعارضة” في جنوب النيل الازرق أثناء الفترة الانتقالية (2005– 2011) وبعد استقلال جنوب السودان ،حيث وفر معبرا مهما لقيادات وجيوش الحركة للتخلص من ضغوطات الجيش السوداني ، كما لم يتردد في دعم ثوار دارفور الذين فتح لهم أبواب أديس أبابا لعرض قضاياهم المختلفة وتقديم رسالة ابتزاز واضحة للحكومة السودانية تدفع الأخيرة للخضوع لإثيوبيا.
ولعل الإقامة الطويلة للحكومة الإثيوبية السابقة في الأراضي السودانية التي امتدت خمسة عشرة عاما متواصلة من 1975م وحتى 1990م سمحت لإثيوبيا بدراسة جيدة للواقع السوداني وتمكنت من إقامة علاقات قوية مع مكوناته الداخلية كما أكسبها قدرة على تخمين الاتجاهات السياسة السودانية المستقبلية فضلا عن تقييم إمكانياتها الحقيقية .
استمرار مشروط
يبدو واضحا حرص كل من إثيوبيا والسودان على دوام الاستقرار في علاقاتهما حتى أضحت حسب ما أكدته وكالة الإذاعة والتلفزيون الإثيوبية، أضحت الشركات التجارية السودانية ثاني أكبر المستثمرين الأجانب في إثيوبيا بعد الصين.
ولكن بالنظر لتاريخ العلاقات بين البلدين وللاختلاف الاديولوجي لكل منهما فضلا عن أهمية المنطقة في الصراع الدولي، فإن هذا الاستقرار لا يعود لمجرد رغبة فردية لكل نظام منهما، ولكن يأتي ليتماشى ومصالح التوازن الدولي في المنطقة وليصب في خط التنافس المحوري الذي دفع بإعلان التحالفات العسكرية المشتركة وبناء الاحلاف الاستراتيجية المتنافسة. ويعكس الدور الغربي في حفظ النظام “المسيحي” الإثيوبي والحرص على ثباته في وسط ظهرت فيه رغبات النهضة الإسلامية الجديدة للريادة.
وفي الختام إن كانت مصالح الحكومة السودانية تتجلى معظمها في المكاسب الاقتصادية والأمنية والعسكرية التي تتمتع بها في ظل التحالف مع إثيوبيا، فإن مصالح إثيوبيا من هذه العلاقة أبعد بكثير من مجرد مكاسب مادية أو أمنية أو عسكرية، بل ترمو لحفظ بقاء أكثر لهيمنتها النصرانية وضمان إخماد أي جذوة للنهوض الإسلامي المتوقع خاصة بجوار الصومال الذي يشهد حركة جهادية مسلحة تمكنت من إقامة حكم إسلامي في مناطق سيطرتها وتهدد بتحرير المسلمين في إثيوبيا ودعم ثورتهم ضد دكتاتورية الأقلية الحاكمة من قومية التيجري. وهو ما يرفضه الغرب وإثيوبيا ويدفعون لمنعه بكل ثقلهم.
من جهة أخرى إن كانت إثيوبيا تملك أوراقا للضغط على السودان بدعم المتمردين وتهديد الحكومة السودانية بتأجيج ثوراتهم، فإن السودان لا تملك أية أوراق قوية تسمح لها بإخضاع الحكومة الإثيوبية ما يجعل من موقفها موقف تابع ضعيف يحرص على رضا سيده باستمرار ويجعل من مكاسبه ضعيفة أمام مكاسب الإثيوبيين ومرتبطة ارتباطا وثيقا برضا الائتلاف الحاكم في إثيوبيا ولهذا كان أمرا طبيعيا أن تسارع السودان للاطمئنان على صلابة النظام الحاكم في إثيوبيا بعد استقالة رئيس وزرائه وتصاعد دخان المعارضة في الشارع الإثيوبي.