المذكرة السرية لجنرال تنبأ بسقوط مروحيات “بلاك هوك” في الصومال
نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، مقالة رأي، للكاتب والصحفي، مارك بودن، الذي سلط فيها الضوء على حادثة سقوط مروحيات “بلاك هوك” الأمريكية في الصومال في عام 1993، حيث أدت الحادثة إلى انسحاب القوات الأمريكية من البلاد.
وبحسب المقال، فقد وقعت معركة مقديشو في مطلع شهر أكتوبر 1993، بشكل تسبب في الصدمة لأغلب الأمريكيين، حيث نُشرت القوات الأمريكية لدعم بعثة الأمم المتحدة الإنسانية في الصومال، وللمساعدة في إنقاذ حياة مئات الآلاف من الأرواح من المجاعة، على حد تعبير الكاتب.
وبعد 10 أشهر من ذلك، وقع قتال عنيف في شوارع مقديشو، أدى إلى مقتل 18 جندي من القوات الأمريكية، وأكثر من ألف من الخسائر البشرية بين الصوماليين، والأمر الفظيع، تم نشر لقطات لسحل الجنود الأمريكيين على يد الصوماليين الغاضبين في شوارع مقديشو على شاشات التلفاز.
وكانت الولايات المتحدة قد خرجت للتو منتصرة من الحرب الباردة، ومن عاصفة الصحراء، وكان لديها ربما، اعتقاد غير واقعي بقوة جيشها.
وبحسب المقال فقد عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي بيل كلينتون آنذاك، عندما سأل فريق مكتبه:”كيف يمكن لهذا الأمر أن يقع؟”، لقد وضعت المعركة نهاية لمهمة القوات الأمريكية العسكرية وفشلت جهود الأمم المتحدة في الصومال التي وقعت في الفوضى.
وبحسب المقال، لم يصب الجميع بالصدمة، فالميجور جنرال، دافيد ميدي، من الجيش الأمريكي، الذي كان تحت قيادته أكبر عدد من الموظفين الأمريكيين في ما يسمى قوات حفظ السلام في مقديشو. كان يتوقع الأحداث بوضوح. فبعد أسابيع من المعركة، في مذكرة موجهة لقائد الجيش الأمريكي، كان قد حذر الجنرال من أن الصومال على وشك الانفجار، وكتب:”سترون قتالا كبيرًا خلال بعض الفترات من الوقت، بخسائر معتبرة” وحذر من أنه في النهاية، ستعيدون العاصمة للصوماليين.
وحثّ الجنرال ميدي على خطوات فورية، كان يمكن أن تمنع وقوع الحادث الذي نعرفه اليوم بـ “بلاك هوك داون”. بحسب الكاتب.
وتساءل الكاتب: لماذا تم تجاهله؟
وبحسب كاتب المقال، بعد خبرة مميزة وطويلة كقائد في المدفعية الثقيلة، استلم الجنرال ميدي قيادة الكتيبة الجبلية العاشرة من الجيش، في أغسطس 1993. وسافر إلى مقديشو في شهر سبتمبر، لتفقد كتيبته الثانية، التي كانت الدعامة لحضور الأمم المتحدة العسكري.
وفي 15 سبتمبر، في اليوم الذي أرسل فيه تقريره السري، كان ميدي هناك لمدة يومين فقط، وكان منزعجًا لما وجده.
وكتب: “لدينا حرب تدور في الصومال”، “من خلال الرؤى التكتيكية وربما التشغيلية، الأمور لا تسير على ما يرام، مقديشو ليست تحت سيطرتنا، الصومال مليئة بالخطر”.
وكانت بحسب ميدي، قبيلة الرئيس الدكتاتور الوحشي محمد فرح عيديد، الأقوى في المدينة، ورئيس بعثة الأمم المتحدة بالمقابل، كان كلاهما مصدر قلقه الأول.
فخطوط العمل تسير في الاتجاه الخاطئ، والبعثة وأمن القوات الأمريكية تحت التهديد. بحسب ما حذر الجنرال آنذاك.
واعتبر الجنرال ميدي، رسالته عاجلة للغاية، ما جعله يتجاوز سلسلة القيادة، حيث أرسلها مباشرة إلى الجنرال “جوردن سوليفان”، قائد الجيش العام، وكانت هذه خطوة جادة خاطئة.
وبعد ذلك، بعد قليل من انتهاء مسيرة ميدي، في سن الـ 53، كان الجنرال على حق. ولكن لم يحصل على ترقيات بعد ذلك، وتقاعد بعد سنتين. بحسب الكاتب.
وتم إزالة تقرير الجنرال ميدي من سجل التقارير، قبل وقت قصير من تقاعده في 1995، وعلى الرغم من أنه لم يعرضه على العلن، كان يريد من التاريخ أن يسجله. ولذلك أعطى نسخة منه لصديقه شارلز كروهن، وهو عقيد متقاعد، والذي حفظ النسخة بعيدًا مع مجموعة من الوثائق المتخصصة.
وبحسب الكاتب، توفي دافيد ميدي في 2019، ثم مؤخرًا، بعد التأكد من سلامته، قرأ العقيد كروهن المذكرة للمرة الأولى، واتصل بكاتب المقال.
ويظهر أن الجنرال قام بأفضل ما يمكنه، من أجل تفادي ما كان سيحدث، حسبما قال العقيد كروهن الذي أضاف:”لا بد أنه قد أدرك الخطر الذي يخاطر به بالذهاب مباشرة إلى القائد العام”.
ولكن بحسب المقال، فإن عدم إحداث تقرير الجنرال ميدي تفاعلا فوريا، لا يعني أنه لم يتم الاستماع إليه، فيبدو أنه تم أخذه بعين الاعتبار ثم أخذ القرارت ببساطة ضد ذلك، ليظهر فقط في انعكاس المراجعات التاريخية.
وبدأ التدخل في الصومال، في 1992، مع محاولة الأمم المتحدة إيقاف القتال القبلي، ولإيصال المساعدات الغذائية للمتضررين من المجاعة. لقد كانت لهذه الجهود نجاحًا غير مصنف كنجاح، ومثالا على أداء يمكن أن يكون جيدًا للحروب الأمريكية ما بعد الحرب الباردة. بحسب الكاتب.
لكن المهمة العسكرية تعثرت، مع المخاوف من أن صراع الاقتتال القبلي سيستمر، ومع انسحاب قوات ما يسمى حفظ السلام، فتحولت بعثة الأمم المتحدة إلى تمرين بناء للأمة.
وعندما قاوم عيديد بعنف، وكان أقوى أمير من أمراء الحرب، أرسل الرئيس كلينتون وحدة عمليات خاصة، تسمى “تاسك فورس رانجر” تحت قيادة الميجور جنرال بيل غاريسون. حيث كان مكلفًا بالتخلص من القائد ومنظمته من معادلة الصراع.
وحين كتب الجنرال ميدي تقريره، كان هو أحد القائدين الكبيرين الاثنين، اللذين يقودان القوات الأمريكية في مقديشو، وكانت قوات الجنرال غاريسون قوات صغيرة تعمل بشكل مستقل. وبعد تحديد موقع أهداف قبيلة عيديد من وحدة خاصة للغاية، تم اعتقالهم في حملات اعتقال مفاجئة.
وبحسب الكاتب، في بداية شهر أكتوبر، كانوا قد قادوا 6 حملات بنجاح متفاوت. وبقي عيديد حرًا لكنه خسر بعض رجاله المهمين، وكانت المهمة تتقدم.
كان الجنود تحت قيادة الجنرال غاريسون، أكثر إدراكا للخطر الذي يتربص بهم أكثر من أي شخص آخر. لقد كانوا الجنود الذين تطوعوا لأكثر مهمات الجيش خطورة. لقد كان طريقة استقبالهم من السكان الصوماليين منذرة. بحسب الكاتب.
وكانت ميليشيات عيديد، تتجاوب بشكل سريع، وازداد حجم نيرانهم، من خلال الأسلحة الخفيفة والقذائف والهاونات.
وهو ما لاحظه الجنرال ميدي في تقريره، حيث وصف، اشتباكًا كبيرًا بين قواته الخاصة ومقاتلين قبليين في شهر سبتمبر، أصيب فيه 3 جنود أمريكيين. وتمكنت قوات الأمم المتحدة من الفرار فقط من خلال تفجير، أحدث حفرة للهروب من مجمعها، لتجنب القتال في طريقها للمخرج.
كان يمكن لعيديد، أن ينظم قوة قتالية خلال ساعتين. بحسبما لاحظ الجنرال ميدي.
وتمكنت قوة دعم للتدخل السريع، من إنقاذ المهندسيين والناقلات تحت الهجوم، من أن يتم الإمساك بهم وقتلهم. وأشار الجنرال إلى درجة العزم التي كانت تتحلى بها قوات عيديد وأيضا درجة تخطيطهم للأمور، وتوقع أن يكون هناك 300 إلى 500 مقاتل صومالي قد اجتمعوا لجعل قوات ما يسمى حفظ السلام تحت النيران من كل الجهات. وأظهر عيديد، أنه في وسط المدن يمكنه أن يكسب المعركة. بحسبما كتب الجنرال.
وبحسب المقال فقد عاكست الأوضاع في الصومال التخطيط الأمريكي، حيث كانت القوات الأمريكية مكلفة بأهداف واضحة يمكن إنجازها، وبحجم قوات كافٍ لمقاومة أي محاولة ضدهم. وكان الوضع في الصومال معاكسًا لذلك، وبحسب الجنرال ميدي، “كل هذا، ثم كان هناك أكثر من إشارات مثل فيتنام، واكو، ولبنان، ثم بنما وعاصفة الصحراء”.
وحث الحنرال ميدي الجنرال سولفيان، قائد الجيش، بأن يدعم كتيبته بشكل فوري، وطلب بتغيير القيود للسماح بتمرير القرارات الجديدة منها أن يسمح باستهداف أي صومالي يحمل سلاحا في المكان، وبدون هذه الإجراءات بحسبما جادل، فإن قتالا كبيرًا سيندلع مع خسائر كبيرة من كلا الجانبين، ما سيدفع الأمم المتحدة للانسحاب، ويؤدي إلى فشل المهمة.
وقال الكاتب:”بعد أسابيع تحقق هذا التوقع، وأطلق الجنرال غاريسون هجومه السابع، الذي كان موضوع كتابي “بلاك هوك داون”، وتم اعتقال اثنان من كبار قادة عيديد، لكن المهاجمين جاءوا بسرعة من كل الاتجاهات، وأسقطت قذيفة، مروحيات “بلاك هوك”.
وبحسب الكاتب، فقط مروحيتان تمكنتا من العودة بأمان إلى قاعدة القوات، لكن مروحيتان اثنتان، تحطمتا في المدينة. وتطلبتا عملية إنقاذ فورية، في وقت اندلع في القتال في المدينة.
واستمرت المعركة لمدة 18 ساعة حتى تمكنت قافلة كبيرة محصنة للأمم المتحدة فيها رجال الجنرال ميدي وآليات مدرعة باكستانية وماليزية، أن تجد طريقها للقوات الأمريكية المحاصرة.
وبحسب الكاتب، كان يمكن استخلاص بشكل سهل، أن كل هذا ما كان ليحدث لو أن الجنرال سولفيان لم يكن قد تغاضى عن نصيحة الجنرال ميدي.
وأشار الكاتب إلى أن التاريخ يحمل العديد من الأمثلة على مثل هذه التحذيرات التي يتم إهمالها، وضرب أمثلة على ذلك.
ففي بداية سنة 1942، حذر السفير الأمريكي في اليابان، جوزيف غرو، واشنطن، من هجوم كبير مفاجئ على “ميناء هاربر”. كما توقع الاقتصادي روجر بابسون بشكل عجيب انهيارا كبيرا، في شهر سبتمر 1929، قبل أسابيع فقط من “الثلاثاء الأسود”.
مثل هذه التنبؤات، تبقى مهمشة، وأغلب الخبراء توقعوا في 1941 أن هجوما على ميناء هاربر غير متوقع، إن لم يكن مستحيلا. وفي 1929 الكثير من الاقتصاديين توقعوا مبيعات سهلة لمخزون السوق، لذلك كان الحدث صادما لهم، ليس لأن لا أحد تمكن من توقع أن يحدث ذلك، ولكن لأن رجالا مثل غرو وبابسون، كانوا خارج الحسابات من قبل الخبراء المصنفين بشكل متساوي. بحسب الكاتب.
واستشهد الكاتب، بكتاب حقق أفضل المبيعات، بعنوان “القصير الكبير”، لمؤلفه ميكاييل لويس سلط الضوء على المستثمرين،الذين تنبأوا بانهيار سوق الإسكان الأمريكي في 2008.
وبحسب الكاتب، فإنه في سبتمبر 1993، تبين أن رؤية الجنرال ميدي كانت أفضل من الجنرال الأعلى منه، والأكثر خبرة قتالية. والذي كان يعتقد أن رجاله ينجحون واستمر في اعتقاد ذلك حتى بعدما حدثت معركة 3- 4 أكتوبر.
ويرى الكاتب أن فكرة الجنرال ميدي في هزيمة تمرد عيديد المحلي، بإضافة المزيد من القوات، وإدخال المزيد من القوات الأمريكية في وسط معادي، تبدو أكثر مثل الفيتنام. بينما كانت استراتيجية الجنرال غاريسون تستخدم وحدات صغيرة، لقيادة هجمات محددة، على أهداف معينة، وهي الطريقة التي يقود بها الأمريكيون القتال منذ الـ30 سنة الأخيرة.
وبحسب الكاتب، اتفق الجنرال سولفيان، مع رؤية الجنرال غاريسون، في تقييم الوضع، واختار خبرة قائد بنجوم أكثر. لكنه خسر التحذير. وكانت مهمة الجنرال غاريسون الكارثية تستهدف أهدافها بنجاح، وكانت خلال دقائق في حالة انسحاب كامل، واتضح أن الجنرال ميدي كان محقًا.
وأضاف الكاتب:”هذا لا يعني أن ما تبقى من تنبؤاته كان سيحدث”.
بعد المعركة، كان يمكن لكلينتون أن يضاعف مهمة قوات “تاسك فورس رانجر”، ضد عيديد، كان يمكن أن يكون صعبًا سياسيًا أن يتفق الجنرال غاريسون، لكن المعركة أضعفت قوات عيديد، وبعض شركائه الكبار، فروا من المدينة. لقد كان رجال القوات الخاصة الأمريكية متعطشين للقيام بالمهمة، وكانوا يعتقدون أنهم قريبون من النجاح. بحسب الكاتب.
وبدلا من ذلك، تصرف كلينتون على العكس تماما، واستقال الجنرال غاريسون. بحسب الكاتب.
وفي خاتمة مقاله، قال الكاتب، لا يمكننا أبدًا أن نعلم كيف كان يمكن أن تتحول الأمور لو كانت رسالة الجنرال ميدي لقيت استجابة، أو لو كانت مهمة الجنرال غاريسون قد سمح لها بالاستمرار، لكننا نعلم أن الانسحاب من المهمة الواسعة، أوقع الصومال في الحرب الأهلية والإرهاب والقرصنة الدولية، لمدة أكثر من 30 سنة بعد ذلك.
وتأتي خلاصة الكاتب في هذا المقال على اعتبار أن التدخل الأمريكي في الصومال، انتهى منذ انسحاب القوات الأمريكية بعد حادثة “البلاك هوك”، والذي يبرر فيه مصير البلاد بعد ذلك، ولكن في الواقع لم يتوقف التدخل الأمريكي في الصومال بل استمر في تغذية الخلافات والأزمات في البلاد، وهو سبب استمرار الصومال فيما وصفه من الحروب الأهلية والإرهاب والقرصنة الدولية.