التقارب الأمريكي الإريتري يطوي تاريخا من الصراع ويتطلع للمصالح المشتركة

تقرير خاص لوكالة شهادة الإخبارية

لم يكن مستغربا قيام الأمم المتحدة برفع العقوبات عن أسمرة، فذلك كان أحد بنود اتفاقية المصالحة بين إرتيريا وجارتها إثيوبيا، بعد قطيعة استمرت لأكثر من عشرين سنة.

 

ولكن المثير للاهتمام مؤخرًا هو ذلك الغزل الجديد بين إدارة واشنطن والحكومة الإرتيرية، والذي تجلى عند استقبال الرئيس الإريتيري أسياس أفورقي في نهاية تشرين الثاني /نوفمبر الماضي، لمساعد وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، تيبور ناجي، في العاصمة الإريترية أسمرة.

 

وتأتي الزيارة الجديدة من المبعوث الأمريكي لمناقشة القضايا الثنائية والإقليمية التي تحمل نفس الاهتمامات والأهداف.

 

من جهتها رحبت أسمرة بالنوايا الأمريكية على لسان وزير إعلامها يمان جبر ميسكل، والذي أكد بأن الرئيس الإريتري قد شدد على استعداد أسمرة الكامل على تطوير علاقات التعاون المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية في مختلف المجالات، كما نشر ذلك موقع “إرتريا بريس” التابع لوزارة الإعلام الإريترية.

 

ويأتي هذا الاتفاق بحسب ميسكل في سبيل تعزيز اتفاقية المصالحة الموقعة بين أسمرة وأديس أبابا في شهر يوليو الماضي.

وبنفس لهجة الترحيب أعرب تيبور ناجي عن رغبة الأمريكيين الشديدة في تعزيز العلاقات مع إريتريا.خلال مؤتمر صحفي داخل السفارة الأمريكية في أسمرة.

 

كذلك أكد ناجي على هذا التوجه خلال مؤتمر صحافي آخر في أديس أبابا حيث صرح قائلا: “نود إقامة العلاقات الإيجابية نفسها مع إريتريا التي نقيمها مع إثيوبيا” .

 

تناقضات ناجي

ويجدر الإشارة إلى أن ناجي هو بنفسه من اقترح على الكونغرس الأمريكي في أيلول/سبتمبر الماضي عدم دعم قرار رفع العقوبات إلا إذا طبقت حكومة أسياس أفورقي إصلاحات سياسية. وانتقد بشدة الاعتقال المستمر لمواطنين أميركيين وموظفين إريتريين في السفارة الأميركية في أسمرة ثم قيام أسمرة بشراء أسلحة من كوريا الشمالية تم توثيق عملية شرائها عن طريق الأمم المتحدة.

 

ومع ذلك بدلت إدارة واشنطن من لهجة الانتقاد والاتهام لإريتريا وفتحت مكانها صفحة جديدة من التقارب والتعاون أصبح ناجي عرابها.

 

وتلاشت بذلك اتهامات واشنطن لحكومة أسمرة بانتهاكات وصفت بالخطيرة لحقوق الإنسان كانت وراء فرار الكثير من الإريترييين إلى خارج البلاد. ما يعتبره المراقبون مؤشرا خطيرا يسمح لأسياس أفورقي بالتمادي أكثر مع الشعب الإريتيري الذي يعاني بالأساس من سياساته المجحفة، ويكشف الوجه القبيح للولايات المتحدة الأمريكية التي تنافق باسم الحريات، فتعلن العقوبات حينا لأجلها وتحذفها في حين آخر لأجل مصالحها. ما يؤكد  أن شعارات العدالة والحقوق والحريات ليست إلا وسيلة لتمكين الهيمنة الغربية وترويض الحكومات العنيدة.

 

سياسات متلونة

ويرى المراقبون تطور العلاقات بين إريتيريا والولايات المتحدة الأمريكية بعد أن صنفت في إطار المتوترة بشكل متصاعد، خطوة جديدة نحو آفاق المصالحة المبرمة وأهدافها كما خططت لذلك إدارة واشنطن لتوظفها لصالح أجندتها في المنطقة في المرحلة المقبلة.

 

ويجدر الإشارة إلى أن المراقبين يعزون تبدل الموقف الأمريكي بدعم رفع العقوبات إلى جون بولتون مستشار دونالد ترامب للأمن القومي الذي كان سفيرا في الأمم المتحدة وقت اندلاع الحرب بين إريتريا وإثيوبيا والذي يشجع المضي قبلا في هذا الاتجاه.

 

قراءة في تاريخ العلاقات الأمريكية الإريترية

عرفت فترة الحرب الباردة بين معسكر الإتحاد السوفيتي ومعسكر الولايات المتحدة آثارا مباشرة على منطقة شرق إفريقيا والحدود الإثيوبية الإريترية بشكل خاص. حيث كان الموقف الأمريكي بجانب إثيوبيا يرفض الاعتراف بحق أسمرة في تقرير مصيرها في الاستقلال عن السيادة الإثيوبية.

 

ولا أوضح من تقديم واشنطن في عام 1949 مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن يهدف لضمّ إريتريا إلى إثيوبيا وضم الولايات الغربية إلى السودان. ولكن المشروع الأمريكي حينها باء بالفشل، ومع ذلك تقدمت الإدارة الأمريكية مرة أخرى بمشروع قرار آخر عام 1950 كان مصيره النجاح، وبذلك أصبحت إريتريا إدارة حكم ذاتي لا ينفك عن سلطة التاج الإثيوبي. وقبعت أسمرة تحت رحمة السيادة الإثيوبية.

 

ولم يكن هدف أمريكا سوى دعم حليفتها الأهم في القارة الإفريقية “إثيوبيا” لضمان حصولها على منفذ بحري، تؤمنه لها الأراضي الإريترية.

 

ولأجل دعم المصالح الأمريكية الإثيوبية الإستراتجية على حساب استقلالية إريتريا، فتحت واشنطن قنصلية لها في أسمرة في عام 1942، لتضمن الإدارة الأمريكية السيطرة الكاملة على الطموحات الإريترية وتلعب دور الشرطي في المنطقة.

 

قاعدة “كانيو ستيشون” في عام 1953

ولم تكتفي إدارة واشنطن بفتح قنصلية لها في أسمرة بل حظيت بموافقة هيلي سلاسي إمبراطور إثيوبيا آنذاك على إنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في إريتريا.

 

وبهذا الشكل نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في فرض سيطرتها على المياه الإريترية في أحد أهم الممرات البحرية في العالم المطلة على البحر الأحمر “باب المندب”.

 

وبلغ عدد الجنود الأمريكيين في القاعدة العسكرية الجديدة التي حملت إسم “قاعدةكانيو ستيشون” في عام 1953 ، أربعة آلاف جندي أمريكي. والتي عملت كقاعدة رئيسية لمراقبة تحركات المنافس اللدود لها، الإتحاد السوفييتي في المنطقة آنذاك.

 

لكن بعد سقوط هيلا سيلاسي في عام 1974 وخلفه منغيستو هيلي ماريام تقلص الوجود العسكري الأمريكي في إريتريا وأغلقت قاعدة كانيو ستيشون في عام 1977 وكذلك أغلقت السفارة الأمريكية بأسمرة.

 

وشهدت هذه المرحلة ميولات من حكومات المنطقة للمعسكر الإشتراكي، لكن ما أن انسحب الإتحاد السوفيتي من القرن الإفريقي في أواخر الثمانينات. حتى تحولت الميولات نحو الرأسمالية والمعسكر الأمريكي من جديد.

 

وهو ما انتهزته إدارة واشنطن مرة أخرى بسرعة وتقدمت لتسد الفراغ الذي تركه الإتحاد السوفيتي في المنطقة.

 

ثمن الاستقلال قاعدة عسكرية جديدة

وفي عام 1989، سجلت أول زيارة لأسياس أفورقي (أمين عام الجبهة الشعبية آنذاك) إلى الولايات المتحدة الأمريكية بصفة رسمية. حيث قابل عدة مسؤولين أمريكيين وشخصيات من الكونغرس وحتى قيادات من اللوبي الصهيوني.

 

وخرجت اللقاءت بقرار السماح للأمريكيين ببناء قواعد عسكرية أمريكية في إريتريا. وكان الثمن مقابل هذا القرار منح الأمريكيين الاستقلال لإريتريا عن إثيوبيا.

 

وساقت إدارة واشنطن التبريرات لهذا التمركز الاستراتيجي الجديد على سواحل البحر الأحمر، كمصلحة الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومكافحة ما يسمى الإرهاب الدولي، والسعي لتأسيس نظام ديمقراطي في إريتريا متناسية جميع المراحل المتوترة التي مضت بين البلدين وقائمة الاتهامات لأسمرة.

 

وتم الاعتراف بإريتريا دولة مستقلة من قبل أمريكا في عام 1993، ورافق هذا الاعتراف تعيين  أول سفير أمريكي يباشر العمل في أسمرة قبل أي تمثيل دبلوماسي آخر.

 

توتر جديد مع إدارة جديدة

لكن العلاقات الأمريكية الإريترية عرفت منعرجا آخر مختلفا، خلال إدارة  بيل كلينتون عام 1998 حيث سارع الرئيس الأمريكي الجديد للتقارب مع الحكومة الإثيوبية على حساب أسمرة. واستمرت واشنطن في تقوية العلاقة مع حليفها الإسترتيجي في أديس أبابا، حتى انفجرت العلاقات بينها وبين أسمرة بشكل صارخ في عام 2000.

 

من جهتها ردت الحكومة الإريترية على التجاهل الأمريكي لها، بقيادة حملات اعتقال واسعة لمن لهم صلة بالإدارة الأمريكية، شملت اعتقال مواطنين أمريكيين من أصل إريتري كانا يعملان في السفارة الأمريكية بأسمرة  وبدون محاكمة.

 

ولاشك أن رد واشنطن المتوقع حينها كان التصعيد، فنزعت الامتيازات الدبلوماسية للممثلين الإريتريين في أرضها.

 

ووصل الخلاف ذروته بين البلدين في عام 2006 حينما اتهمت إريتريا الولايات المتحدة بتعطيلها تنفيذ اتفاقية الجزائر، ودعم  الحكومة الإثيوبية على حساب التدخل في الشؤون الإريترية. وكان الجواب الأمريكي المسارعة بسحب السفير الأمريكي والملحق العسكري من حفل عيد الاستقلال الإريتري الذي وجه خلاله أسياس أفورقي الاتهام لأمريكا وهكذا ساد الأجواء الأمريكية الإريتيرية شعور العداء من جديد لانحياز الأمريكيين للجانب الإثيوبي الذي كانت في عداء معه آنذاك.

 

وتميزت هذه المرحلة بإغلاق القنصلية الإريترية في الولايات المتحدة، في أغسطس 2007 ، والذي أعقبه دفع واشنطن الأمم المتحدة نحو فرض عقوبات على إريتريا بحجة دعم الإرهاب.

 

واستمر العداء في التصاعد ليصل إلى درجة المطالبة بمحاكمة إريتريا في المحكمة الجنائية الدولية تحت حجة الدفاع عن حقوق الإنسان التي تنتهكها الولايات المتحدة ولا تبالي.

 

هدوء نسبي مع إدارة أوباما

ولكن مع الألفية الجديدة، وتحت إدارة أوباما هدأت العواصف بين الطرفين، وخف التراشق الإعلامي، وتبادلت الإدارتان رسائل التهاني.

 

وشهدت المنطقة مرحلة جديدة من التقارب الأمريكي الإريتري، تقودها أطماع وأهداف الأمريكيين في إريتريا من جديد.

 

ويرى المراقبون أن من بين هذه الأهداف، كان الحرص على  إنقاذ الاتفاق الإستراتيجي الذي تم توقيعه بين الجبهة الشعبية الإريترية وجبهة التيجراي في التسعينيات برعاية أمريكية.

 

ويوضح المراقبون أنه من الأهمية بمكان أن تحظى واشنطن بحليف في المنطقة لمواجهة ما أسموه بالمد الإسلامي أو الصعود الإسلامي بالمنطقة والذي اعتبروه تهديدا للنصارى في شرق إفريقيا.

وبالنسبة لإثيوبيا كانت إريتريا منفذا بحريا لا يمكن التفريط فيه إن صلحت الأجواء وأعيدت العلاقات وبدأت بوادر المصالحة تتجلى في فضاء شرق إفريقيا.

 

أبي أحمد يحقق للأمريكيين مرادهم

ولكن الأجواء لم تصل لمرحلة الهدوء التام خاصة مع تولي الرئيس ترامب كرسي الحكم،  وهو الرئيس الذي أدرج إرتيريا ضمن الدول التي أوقفت إدارته منح التأشيرات لمواطنيها.

 

إلا أن مع تنصيب رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الذي غير تماما من سياسة التعامل مع أسمرة على غير عادة الائتلاف الحاكم في إثيوبيا، يبدو أن واشنطن وجدت ضالتها للتسلل من جديد إلى أسمرة وتحقيق أهدافها بمعية المصالحة.

 

التطورات الأخيرة

وبعدما رسمت لنا تطورات العلاقات بين واشنطن وأسمرة منحنى بياني مضطرب، تارة يقفز للأعلى وتارة ينزل للأسفل من إدارة أمريكية لأخرى وبحسب المصالح الأولى في كل مرحلة. انتهى اليوم إلى مستوى الاستقرار، بعد زيارة ناجي لأسمرة، لتطوى بها سنوات من الصراع وتبادل الاتهامات والجمود المنذر بطول العداء.

 

ويجدر الإشارة إلى أن ناجي زار أسمرة كمحطة من بين عدة محطات ضمن جولاته في منطقة القرن الإفريقي،  لإرساء قواعد السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة المطلة على البحر الأحمر وباب المندب في وقت يزداد فيه النظام الدولي احتقانا.

 

ويرى المراقبون المساعي الأمريكية لكسب موطأ قدم في إريتريا يرجع بالأساس لأجل أمن الكيان الصهيوني. والذي بدوره أقام له قواعد عسكرية في الضفة الإرتيرية.

 

في حين يرى آخرون إريتريا بالنسبة لواشنطن محطة اقتصادية مهمة لا يُفرط فيها في ظل حربها الاقتصادية مع الصين التي تتمدد عبر أذرعها واستثماراتها في القارة الإفريقية بشكل ملفت للانتباه.

 

وبالنظر للتطورات الأخيرة التي عرفتها سواحل البحر الأحمر والتنافس المحموم بين القوى الكبرى على كسب موطأ قدم عليه، ثم الحديث عن صفقة القرن التي تخبئ الكثير من المفاجآت، وركوب الزعماء العرب قطار التطبيع العلني، يبدو أن المصالحة الإثيوبية الإريترية تصب في نهر مصالح صفقة القرن، بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

ولو تمكن أبي أحمد من بناء أسطول بحري يسيطر على البحر الأحمر كما وعد شعبه، فلا شك أن لهذا نقاط استراتيجية تستفيد منها الولايات المتحدة الأمريكية الشريك الأقرب أفضل استفادة. مع العلم أن إريتريا ستنتعش اقتصاديا بهذه التطورات، حكومة وليس شعبا.

 

الخريطة الجديدة

والخلاصة التي نخرج بها من هذا العرض للتاريخ والحاضر وربما بعضا من المستقبل المنتظر، أن الوضع الإريتيري سيتغير من الآن وصاعدا في خريطة شرق إفريقيا من دولة منبوذة ومعاقبة إلى مركز جذاب للأطراف المتنافسة مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي. وستستغل حكومة أسايس أفورقي هذا التطور لصالحها سياسيا واقتصاديا، ولكن لا ينتظر أن يغير هذا الاستغلال من واقع الشعب الإريتيري كثيرا، في ظل عقلية استبدادية قمعية تحكمه منذ عقود.

وسيضغط هذا أيضا على جيبوتي القريبة والتي تتواجد عليها قاعدة عسكرية صينية يصل حجم قدرتها الاستيعابية إلى 10 آلاف جندي صيني بجوار قاعدة أمريكية وأخرى فرنسية وأخرى يابانية. ولعل هذا السبب الذي يدفع واشنطن لتحقيق مصالحة جديدة بين أسمرة وجيبوتي. وتمكين الهيمنة الأمريكية من السيطرة على إريتريا حيث تصبح قاعدة ليمونير الأمريكية في جيبوتي أكثر أمانا في أرض متعددة القوى وفي وقت تنافس بدت أماراته منذرة بتغيير كبير في هيكل النظام الدولي.

 

ثم لا ننسى بروز بعض القوى الكبرى بقرونها مثل روسيا والصين التي تتمدد أذرعها العسكرية والاقتصاية والسياسية والاجتماعية في القارة السمراء بقوة، ما يدفع لواشنطن لاتخاذ إجراءات احترازية لحماية قواعدها العسكرية ومصالحها في المنطقة بعقد التحالفات مع حكومات البلدان الشرق إفريقية التي تقع في موقع جيوسياسي في غاية الأهمية في خريطة العالم.

 

هذا وبالنظر في صعود المد الجهادي في الجنوب وتحديدا في الصومال، فإن الولايات المتحدة تريد أن تحقق هدفين اثنين، الأول بناء حاجز أمام هذا الصعود الإسلامي، والثاني تهيئة الأرضية لأمن الكيان الصهيوني من جانب البحر الأحمر ووضع حلفائها في رعاية قواعدها العسكرية في منطقة تعجّ بالقواعد العسكرية للدول الكبرى وحتى إيران.

 

وبانتظار أن تكشف لنا الأيام أهدافا أخرى لهذا التقارب الأمريكي الإريتيري، يبقى أسايس أفورقي الحاكم المستبد ويبقى الشعب الإريتيري الضحية الأولى لمصالح الدول الكبرى. وتبقى إثيوبيا المستفيد الأول، وتبقى خريطة القوى رهن التطورات التي تدفعها المسابقة المحمومة بين قيادات النظام الدولي.