البشير يفشل في قمع الثورة السودانية وتحقيق مطالب السودانيين مرهون باستمرارية ثورتهم
تقرير خاص لوكالة شهادة الإخبارية
خرج السودانيون يوم أمس الجمعة في مظاهرات جديدة مرة أخرى، حملت عنوانًا “جُمعة الحرية والتغيير”، انطلقت بعد صلاة الجمعة من المساجد، يردد خلالها المحتجون شعارات مناوئة للحكومة السودانية ويطالبون بإسقاط نظام عمر البشير.
وكان الرد المتوقع من السلطات السودانية محاولة قمع هذه الاحتجاجات، عن طريق قنابل الغاز المسيلة للدموع وتطويق قوات الأمن.
قتلى بسبب الاستجابة القمعية
وأوقعت الاحتجاجات التي انطلقت منذ شهر ديسمبر الماضي، 19 قتيلا بحسب الإحصائيات الحكومية فيما أصيب 219 مدنيًا و187 من القوات النظامية، إلا أن تقديرات منظمة العفو الدولية تؤكد بأن عدد ضحايا الاحتجاجات يصل إلى 37 قتيلاً.
ويجدر الإشارة إلى أن الاحتجاجات السودانية بدأت بالتنديد بارتفاع سعر الخبز إلى ثلاثة أضعاف سعره الأصلي، وغلاء المعيشة عموما، وانتهت بالمطالبة بإسقاط عمر البشير وحكومته.
مطالبات بحل الحكومة
من جهتها طالبت الجبهة الوطنية للتغير التي تضم 22 حزبا سودانيا، بتكوين مجلس سيادي يتولى تشكيل حكومة انتقالية جديدة، وقد رفعت مذكرة للرئيس السوداني تطالبه بحل الحكومة والبرلمان السوداني.
وطالبت الجبهة أيضا بإعادة التثميل السياسي لوقف الانهيار الاقتصادي وتنظيم انتخابات عامة، موجهة – في نفس الوقت – الاتهام للحكومة لإهمالها تطوير القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الزراعة، وانتهاج سياسات خاطئة أدت إلى تفشي البطالة وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية.
حجب أخبار الثورة ومواقع التواصل
ورغم حجب السلطات السودانية لمواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، تمكن الناشطون باستعمال التصفح الخفي (عن طريق شبكة افتراضية خاصة – في بي إن-) من نشر أخبار الاحتجاجات المتفرقة في حي جبرة والجريف بالخرطوم، ومنطقة الصافية بالخرطوم بحري.
ويجدر التذكير بأن وسائل التواصل الاجتماعي تسمح بتنظيم وتوثيق الثورة السودانية دون تدخل إعلام السلطات والمؤسسات الحكومية برسم صورة مشوهة أو مزوّرة لها.
وكان أبرز وسم (هاشتاغ) نشر أخبار هذه الثورة، هو وسم (#مدن_السودان_تنتفض) وقد شهد تفاعلا كبيرا مع عدد متزايد من الناشطين والمتعاطفين على الشبكة.
ويرى المراقبون أن لمواقع التواصل الاجتماعي تأثيرًا حقيقيًا وكبيرًا، إذ أنها تساعد في تشكيل الرأي العام ونقل ما يحدث في السودان للخارج بمصداقية أصبحت مفقودة في وسائل الإعلام المحلية بل وحتى الخارجية، وبحسب الأخيرة فإن نحو 13 مليونًا، من بين سكان السودان البالغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة، يستخدمون الإنترنت، وإن أكثر من 28 مليونًا يملكون هواتف محمولة.
قمع يصل لاعتقال الصحفيين
ولم تكتفي يد القمع الحكومية بمحاصرة المحتجين والتضييق عليهم وملاحقة كل طيف للمعارضة، بل امتدت إلى الصحفيين في محاولة لإعاقة تغطيتهم للاحتجاجات، حيث استنكرت شبكة الصحفيين السودانيين في بيان لها قيام الحكومة السودانية باعتقال الصحفيين، مؤكدة خبر اعتقال 3 من الصحفيين وحجب مواد الرأي لعدد من الصحف السياسية.
الانتفاضة السودانية تهدد حكم البشير
ويرى الخبراء أن الاحتجاجات الدامية التي اندلعت في أنحاء السودان في الأسابيع الأخيرة تمثل أكبر تهديد يواجه عمر البشير، منذ حكم البلاد بسياسة الحديد والنار بعد توليه السلطة في انقلاب في 1989. ذلك أنها لم تنطلق من العاصمة الخرطوم بل انطلقت من المحافظات الآخرى المجاورة.
وقد تولى البشير الحكم بعد الانقلاب الذي أطاح برئيس الوزراء السابق، الصادق المهدي وحكومته، ولهذا – وبعد إتقانه درس الانقلاب- اعتمد الرئيس السوداني على جهاز الأمن والمخابرات للتصدي لأي محاولة في الانقلاب عليه هو الآخر، وهذا ما يفسر الاعتقالات المتكررة في صفوف قادة المعارضة والنشطاء والصحفيين لمجرد التعبير عن رأي مناهض للحكومة.
ومع أن البشير مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية التي مقرها بلاهاي بتهم ارتكاب جرائم إبادة ، إلا أنه عومل من قبل المجتمع الدولي، كطرف مهم وفعال في تحقيق عملية انفصال الجنوب السوداني عن الخرطوم، والذي بانفصاله خسر السودانيون ثلاثة أرباع مخزونات ثروات بلادهم النفطية ونقصت معه العملات الأجنبية بشكل حاد.
ويرى المراقبون أن خروج السودانيين بشعار الربيع العربي الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام ” جاء كنتيجة طبيعية لحالة الانهيار التي يعاني منها الاقتصاد السوداني منذ نحو عقد من الزمن، في وقت لجأ فيه النظام للحفاظ على السلطة إلى توفير ميزانيات مخصصة بشكل كبير لنفقات الجيش وأجهزة الأمن. وهذا ما يدفع المراقبين لاعتقاد أن الغضب الذي تشهده شوارع السودان لن يتلاشى قريبا كون الأسباب الدافعة له لا تزال عميقة.
ويجدر الإشارة إلى أن الثورة السودانية انطلقت في وقت كان يمهد فيه البشير للحصول على تعديلات دستورية تتيح له الترشح للرئاسة مرة أخرى في انتخابات 2020 المرتقبة، بعد أن هيمن على الحكم مدة 29 سنة كأحد أطول الدكتاتوريين العرب تعميرا في الحكم.
فرص بقاء البشير في الحكم
ويرى المراقبون أن استمرار البشير في الحكم بعد انطلاق الثورة السودانية مرهون بموقف أجهزة الأمن وعلى رأسها الجيش من هذه الثورة، فإن اصطفت هذه الأجهزة في صف المحتجين، فإن أيام البشير ستصبح معدودة. ويحكم هذا البقاء أيضا مدى قدرة السوادنيين على مواصلة ثورتهم والثبات على مطالبهم دون الوقوع في فخ الثورة المضادة، التي تبدأ بتدخل الداعمين والأطراف الأجنبية، إضافة إلى قدرة هذه الثورة في توحيد جبهة السودانيين لتجاوز أخطاء ثورات الربيع العربي السابقة.
البشير يتحدث
من جهته قال عمر البشير، “الخروج من الأزمة الحالية لن يحصل بين يوم وليلة”. ووعد بتطبيق برنامج لزيادة الرواتب إلى الحد الأدنى المطلوب، مشدداً على “التزام حكومته برفع المعاشات للفئات التي أعطت من حياتها للبلاد”. على حد تعبيره.
البشير يوظف القضية الفلسطينية
وفيما وصف بدغدغة لمشاعر السودانيين، سلط الرئيس السوداني الضوء على موقف حكومته من إسرائيل، خلال لقائه بمشايخ الطرق الصوفية بمقر الضيافة الرسمي “بيت الضيافة”، في العاصمة الخرطوم. حيث قال بأنه وحكومته تلقوا نصائح بـ”التطبيع مع إسرائيل” لتحصيل بعض الامتيازات والمساعدات، وقال البشير: “نصحونا بالتطبيع مع إسرائيل لتنفرج عليكم، ولكننا نقول الأزراق بيد الله وليست بيد أحد”.
ولم يوضح البشير من هم الذين قدموا له هذه النصيحة.
جنوب السودان يخشى على استقلاله
وفي الوقت الذي يحتج فيه السودانيون من سوء المعيشة وسوء معاملة الحكومة السودانية، وتأكد فيه التقارير على أن انفصال الجنوب كان أهم سبب في تأزيم الوضع الاقتصادي في البلاد، قال سفير جنوب السودان في الخرطوم “ميان وول دوت” أن “الاحتجاجات التي تشهدها المدن السودانية هذه الأيام لن تؤثر على اتفاق السلام الذي وقعته الأطراف بوساطة من الرئيس السوداني عمر البشير”.
وتعكس تصريحات السفير مخاوف جنوب السودان من أن تؤدي غضبة الشعب السوداني لتراجع في موقف الخرطوم بخصوص قضية انفصال السودان الذي ذهب بأغلب ثروات البلاد النفطية، إذ أشار “مياد وول دوت” إلى أن الاتفاق تم بوساطة من الرئيس السوداني عمر البشير، لكنه تم تحت مظلة الهيئة الحكومية للتنمية بشرق إفريقيا “إيجاد”، لذلك فهو لن يتأثر بالاحتجاجات التي تشهدها المدن السودانية بحسب رأيه. في إشارة إلى أن سقوط البشير لن يؤثر في انفصال الجنوب.
وطالب السفير السكان من جنوب السوادان بعدم الانخراط في هذه الاحتجاجات وأخذ الحذر والحيطة منها. وقال: “أدعو مواطني جنوب السودان للبقاء بعيداً عن أماكن التظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها المدن السودانية، لأنها شأن داخلي ولا علاقة لكم بها كمواطنين من دولة أخرى”.
ووفق إحصاءات لمنظمات محلية، فإن عدد اللاجئين الذين فروا إلى السودان من جنوب السودان منذ بداية الحرب الداخلية قد زاد عن 1.5 مليون شخص.
مستقبل الثورة السودانية
بعد 29 عامًا تقريبًا من حكم البشير للسودان، يقف اليوم الرئيس السوداني أمام حقبة من التمرد على سلطته القمعية، ويشاهد بنفسه انهيار التحالفات الداخلية التي عمل على بنائها طيلة فترة حكمه، وفي حين أن الشرطة والجيش لم تعلنان بعد عن موقفهما النهائي من هذه الثورة ، فإن الدعوات التي تطالب بتنحي البشير آخذة في الازدياد.
ولعل أبرز ما حاول البشير الاستعانة به لمواجهة هذا التهديد، سعيه لتصوير مشهد الثورة السودانية الجديدة كحلقة من الصراع ضد العلمانية وعملاء الغرب الذين تآمروا بحسب تعبيره للقضاء على تجربة السودان التي وصفها بالإسلامية.
ويعتقد البشير أن العزف على وتر الخطاب الديني، سيسمح له بتسكين آلام الجوع التي يكافح السودانيون من أجل تخفيفها، وهو ما يراه المراقبون محاولة متعثرة كون الوضع في الشارع السوداني ينطبق عليه المثل القائل “وصل السيل الزبى”، أو المثل القائل “لا تغطى الشمس بغربال”.
من جهتها ترى الأسوشيتد برس أن أحد الخيارات المتاحة للبشير هي الاستمرار في سياسة القمع والعنف مع المحتجين وتوظيف الآلة الأمنية لأجل تحقيق ذلك، ولكن لهذه السياسة مفعولها العكسي، حيث ستزيد من تأزيم الوضع ومن رفع مستويات المعارضة وربما زيادة الإصرار على خلع الرئيس المهيمن على كرسي الحكم منذ حوالي 30 سنة.
ولا تبدوا هناك خيارات أخرى في يد الرئيس المتشبث بكرسي الحكم في الأفق، كتنحيه مثلا أو تنظيمه انتخابات رئاسية طارئة دون أن يترشح فيها. وهي الخيارات التي قد تخفف من غضبة السودانيين إلى حين تحقيق تغير جذري في وضعهم المعيشي المزري.
أما صحيفة “الفايننشال تايمز” فقد شككت في مقال لها حمل عنوان: “احتجاجات السودان تحمل رائحة الربيع العربي”، في إمكانية إسقاط البشير بسهولة، معللة ذلك بامتلاك الرئيس السوداني قدرة استثنائية على البقاء جعلته يتحمل سنوات من العزلة الدولية ويخمد عددا من الانتفاضات ضد حكمه منذ سيطرته على السلطة في انقلاب دعمه الإسلاميون في 1989.
وأوضحت الصحيفة البريطانية أنه إن كان رحيل البشير من السلطة غير متوقع وفق هذه الرؤية، فإن استمرار الاحتجاجات التي انتشرت خلال الأسابيع الماضية في مدن وبلدات السودان، تشير فعلا إلى أن يوم حساب الرئيس السوداني يقترب.
واعتبرت لحظة تحقق ذلك، لحظة أمل عظيمة في القرن الأفريقي ولكن في نفس الوقت لحظة خطر حقيقي.
وتخشى الصحيفة كما يخشى العديد من المراقبين أن يقابل التحرر مما وصف بـ “وصمة عار” في أن يحكم شخص متهم بجرائم حرب دولة برمتها، أن يقابله في ذات الوقت، إمكانية سورنة الملف السوداني، حين ينتهي إلى حالة من الفوضى والانفلات ستمتد لسنوات تهدد حتما الأجندات الغربية في الهيمنة على المنطقة التي تعتبر استراتيجية في خريطة العالم الإسلامي.
وقلل المراقبون من فعالية الدعم الخليجي الذي يحظى به البشير بسبب وقوفه في صف السعودية في أزمتها مع قطر وفضائحها الأخيرة في العالم، وذلك لأن غرق البلاد في الثورة، يحتاج لأكبر من دعم خليجي لن يصمد أمام عواقب تجويع شعب برمته وقمعه لعقود.
ومع اقتراح المراقبين لحلول سياسية واقتصادية من قبيل فتح باب الاستثمارات والتخلص من المديونية المتراكمة التي تصل إلى 56 مليار دولار حيث تباينت الآراء حول جدواها وإماكنية تحقيقها، فإنهم يتفقون على أن فرص تهدئة الشارع السوداني لن تتحقق بين يوم وليلة.
والخلاصة
يبدو واضحا أن آمال الثورة وأهداف الثوار السودانيين لن تتحقق إلا بمزيد صبر وثبات على طريق المطالبة بالعدالة وإسقاط نظام قمعي مستبد طغى على البلاد قرابة الثلاثين سنة، عاش خلالها السودانيون أسوء مستويات معيشية رغم امتلاك بلادهم لثروات لا تعد ولا تحصى، ولابد لهذه الثورة أن تستفيد من تجارب الثورات السابقة وتقطع الطريق أمام أي تدخل لأدوات الثورة المضادة والتدخل الأجنبي. بتوحيد الجبهة السودانية ورفع درجة الوعي وتنظيم تيار الثورة الجارف بما يحقق مطالب الشعب المضطهد. وإلا فأبشر بطول حكم يا بشير.