السودان بين دوامة الأزمات الداخلية والتجاذبات الدولية

تقرير خاص لوكالة شهادة الإخبارية
(شهادة) – لم يكن إلغاء الرئيس الأمريكي دونالد ترمب العقوبات على السودان في 6 أكتوبر الماضي، مع إبقائها في قائمة الدول الراعية لما يسمى “الإرهاب” بداية انحسار مرحلة الضيق التي يعيشها السودانيون، بل على العكس من ذلك، يواجه السودان جملة من التحديات المعقدة تداخلت فيها المشاكل الداخلية والإقليمية والدولية، لا يبدو أن الحكومة السودانية وصلت معها إلى نهاية أو استراتيجية واعدة إلى الآن.

ويعاني الشعب السوداني من أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية تهدد طموحاته وتقوض أحلامه في ظل سياسة مضطربة لقيادة تريد إرضاء الجميع على حساب شعبها. وتعمل جاهدة للتضييق على المعارضة.

الأزمة الاقتصادية على رأس الأزمات
خرج السودانيون الغاضبون للاحتجاج على رفع الأسعار الذي فرضته الحكومة السودانية تلبية لقرارات صندوق النقد الدولي، ولكن الرد الحكومي كان بشعا وعنيفا، وذلك بملاحقة المحتجين والزج بهم في السجون.

ويجد المواطن السوداني نفسه بين سندان الأزمة الاقتصادية ومطرقة القمع من الحكومة. فيضطر للصمت رغم الارتفاع الهائل للأسعار بشكل لا يتحمله أغلب السودانيين.

وقد ارتفعت أسعار السلع الضرورية في السودان وقفزت معها تكاليف المعيشة بنسبة 15.7%. بينما ظل الحد الأدنى للأجور ثابتا عند 425 جنيها، وهو لا يغطي سوى 3.1% فقط من كلفة معيشة الأسرة المكونة من 5 أشخاص. بحسب أحد المؤسسات الإحصائية السودانية.

وأضحى الخبز الذي يعد الغذاء الرئيسي الذي لا غنى للفقراء عنه، بسعر مرتفع لا تقدر على توفيره الكثير من العائلات السودانية الفقيرة. وطالت مع هذه الأسعار طوابير الانتظار عند المخابز، ليتحمل المواطن السوداني عبأ هذه الزيادة والتي لم تقتصر فقط على الخبز بل شملت أيضا سلعا أخرى ضرورية زادت أسعارها بشكل مقلق، في وقت يستمر فيه الجنيه السوداني في الانخفاض مقابل العملات الأخرى.

وما زاد الطين بلة أن انقطاعات الكهرباء المتكررة عن المصانع وشركات الطحن وفقدان “الجازولين” لتشغيل المولدات الكهربائية لتعويض فترات الانقطاع ساهمت بدورها في رفع أسعار دقيق الخبز بشكل أكبر.

كما شهدت أسعار اللحوم من جهتها ارتفاعا مستمرا رغم إعلان جمعية حماية المستهلك عن حملة مقاطعة للحوم بأنواعها حتى عيد الأضحى المقبل.

وتأثر قطاع النقل بشكل سلبي بسبب أزمة الوقود التي تشهدها البلاد وكذلك قطاع البناء وقطاع الغاز الذي يستعمل في المنازل.

ويؤزم الوضع أكثر تعمد الكثير من الشركات والمصانع إلى وقف منتجاتها عن العرض في الأسواق لأجل خلق حالة احتياج وندرة ثم رفع أسعارها واستغلال حاجة السودانيين عند عرضها مرة أخرى.

 

فشل حكومي ومحاولات لتجاوز الأزمة
وبعد فشل جميع محاولات الحكومة المعلنة لتفادي هذه الأزمة اتجهت السلطات السودانية إلى حلول أخرى بإبرام إتفاقيات اقتصادية دولية عديدة واللجوء إلى نظام الشراكة، بحيث تمول الشركات والقطاع الخاص مشاريع الدولة، لفترة تعاقد لا تقل عن 20 عاماً، ثم تعود ملكية المشاريع إلى الحكومة بعد انقضاء التعاقد. بهدف زيادة معدل النمو الاقتصادي، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة.

ومن بين الاتفاقيات الدولية الموقعة اتفاقية اتحاد أصحاب العمل السوداني وغرفة التجارة والصناعة البولندية والتي شملت 4 اتفاقيات للتعاون فى مجال الاستثمار.

وينضم لهذه الجهود محاولة السودان جذب أنظار الروس إليها، حيث صرح وزير المعادن السوداني محمد أحمد علي، أن عمر البشير ناقش مع الوزير الروسي للموارد الطبيعية دميتري كوبيلكين، مشروع إنشاء مصفاة للنفط على البحر الأحمر. واعتبر الوزير الروسي نتائج الاجتماع بأنها إيجابية.

ويجدر الإشار إلى أن السودان يمثل بموقعه المتميز جسرا للنفاذ إلى قارة إفريقيا والدول العربية ويمتلك ثروات وأراضي غنية تفتقد لمشاريع الاستثمار.

ولم تظهر بعد نتائج هذه الاتفاقيات ولا مردودها الاقتصادي على معيشة الشعب السوداني الذي يبقى في ضيق الانتظار.

عقبة الفساد الداخلي
وفي الواقع لا يعتمد تجاوز الأزمة الاقتصادية في السودان على مجرد تشجيع الاستثمار وإبرام الاتفاقات الثنائية مع دول أجنبية، ولكن يعتمد أيضا على قدرة الحكومة في علاج الفساد الذي نخر في الهيكل الداخلي للحكومة السودانية.

فالفساد الداخلي ظهرت آثاره في وسائل الإعلام السودانية بشكل ملفت، كان آخر حلقاته خبر ضبط 120 مليون دولار في منزل ضابط سابق في جهاز المخابرات السودانية، وهو الخبر الذي تداوله نشطاء مواقع التواصل على نطاق واسع، ودشنوا هاشتاغ #نهب_ثروات_السودان، نددوا فيه بما يعيشه السودانيون من تضييق اقتصادي في وقت تنهب فيه ثروات البلاد.

 

الأزمة السياسية والتقارب المصري السوداني الجديد
ومع إرهاصات الأزمة الاقتصادية لم يخف على متابع توتر العلاقات السودانية المصرية التي وصل احتقانها لدرجة تهدد باندلاع حرب بين الجارتين، لكن عقب التقارب الإثيوبي الإرتيري الجديد بوساطة إماراتية وقيادة أمريكية، يجد السودان أخيرا اهتماما مصريا مفاجأ، تجلى بتحسين أجواء العلاقات بعد قمة جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير في العاصمة السودانية الخرطوم. ويبدو أن هذا الاجتماع حظي بتهدئة بين الطرفين تجاوزت ولو مرحليا الخلاف الحدودي حول حلايب وشلاتين ونسي البلدان أحقادهما وتراشقاتهما إلى حين.

وقد كان التقارب الإثيوبي الإرتيري حاضرا في القمة الجديدة بين مصر والسودان ، حيث أعلن السيسي وهو يخاطب الدول الأفريقية بأن “مصر ستواصل جهودها لدعم الاستقرار في إثيوبيا وإريتريا”، ما يعكس حقيقة أن التقارب المصري السوداني جاء ليصب في ذات الجهود التي يرمي لها التقارب الإثيوبي الإرتيري، ولكنه لا يعني بالضرورة أن يصل الأمر إلى تقارب سوداني إرتيري خاصة بعد إعلان السودان إغلاق معابرها الحدودية مع إريتريا على خلفية وجود تهديدات محتملة على حدودها الشرقية، كما أعلنت حالة الطوارئ والاستنفار والتعبئة في ولاية كسلا في وقت تميزت به العلاقات بين البلدين بتنافر قديم ومستمر.

 

وإن كان الهدف الأول للقمة تحسين العلاقات بين مصر والسودان فإن الهدف التالي كان بأولوية من نصيب الاقتصاد بإبرام جملة من الاتفاقيات في هذا المجال كان منها اتفاقية للتشارك في الطاقة الكهربائية، واتفاقية لربط السكك الحديدية بين الجارتين.
ويجدر الإشارة إلى أن زيارة السيسي للسودان جاءت مباشرة بعد زيارة أولى لمدير المخابرات المصري اللواء عباس كامل في مارس الماضي. يرى المراقبون أنها جاءت لأجل أولوية الاتفاقيات الأمنية والتمهيد للقمة قبل لقاء الرئيسين.

نزاعات داخلية لا تنتهي
وتعيش السودان مرحلة ترقب وحذر منذ انفصل جنوب السودان عن السودان، عبر استفتاء شعبي عام 2011، ثم انطلاق حرب أهلية بين القوات الحكومية والمعارضة منذ 2013 تدخلت فيها القبائل بشكل مباشر.

كما تعيش منطقة جبال النوبة حربا وحصارا من قبل الحكومة السودانية على مناطق سيطرة الحركة الشعبية وصلت إلى مرحلة تعالي أصوات المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال عن السودان.. وهو ما ترفضه الحكومة السودانية جملة وتفصيلا يؤكده فشل جميع جولات التفاوض منذ اندلاع الحرب بين الطرفين عقب انفصال جنوب السودان في العام 2011.

ولا زال إقليم دارفور يشكل بؤرة توتر أخرى ترتفع وتنخفض المواجهة فيها وتميل أكثر للانفصال على غرار جنوب السودان، وهو ما ترفضه الحكومة السودانية أيضا بأمر حاسم.

 

ومع هذه النزاعات الداخلية يضاف إليها معضلة الاتجار بالبشر وتهريبهم، حيث تعتبر السودان معبرا للهجرات غير الشرعية التي يقع فيها ضحية للاستغلال والمتاجرة الكثير من المهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا.

 

سد النهضة

ويحتل سد النهضة أحد أبرز معالم الصراع في المنطقة بين مصر والسودان وإثيوبيا، فالثروة المائية سبب أول لقيام الحروب وتهديد الأمن القومي للبلدان وهذا ما دفع مصر لمضاعفة الجهود في محاولة ضمان تأمين حصتها من مياه النيل بعد إقدام إثيوبيا على بناء سد النهضة رغم عاصفة الجدل التي رافقت انطلاقة هذا المشروع وحجم التصريحات النارية التي غلبت على الساحة الإعلامية والسياسية في ذلك الوقت. وتبقى قضية سد النهضة على صفيح من النار، قد تشتعل في أي حين رغم التطمينات الإثيوبية لمصر، ورغم محاولة السودان تأكيد ذلك.

 

الاهتمام الأمريكي الجديد
وفي الوقت الذي يجذب السودان أنظار المستثمرين الأجانب وعلى رأسهم الروس، لوحظ تقارب أمريكي جديد، بعد مرحلة مقاطعة وفرض للعقوبات أنهكت الحكومة السودانية.

ويتجلى ذلك من خلال رسالة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو إلى نظيره السوداني الدرديري محمد أحمد التي أعرب فيها عن استعداد واشنطن للعمل مع الحكومة السودانية، لأجل تطوير العلاقات بين البلدين. كما أشاد بومبيو على جهود الحكومة السودانية في مجالات مكافحة ما يسمى الإرهاب.

 

ورغم أن صفقة رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، جاءت مقابل تعاون الأخيرة في ما يسمى مكافحة الإرهاب والعمل على تحقيق استقرار جنوب السودان.. إلا أن تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب لا زال يلازمها في التصنيف الأمريكي.

ما يفسره المراقبون بأنه ورقة ضغط مستمرة تدفع بها الإدارة الأمريكية عمر البشير لتقديم المزيد من التعاون الأمني والاستخباراتي في حربها على ما يسمى الإرهاب.

فضيحة أزمة التمثيل الدبلوماسي
بعد الفضيحة التي أعلنها وزير الخارجية السوداني السابق إبراهيم الغندور في البرلمان السوداني، والتي انتهت بطرده من منصبه، كشف النقاب عن حاجة السفراء السودانيين لحقوقهم المالية وهم في منصب رفيع يمثلون فيه البلاد في الخارج ما دفع بحملة من الانتقادات المباشرة موجهة للحكومة السودانية تتهمها بالتقصير في دفع رواتب ومستحقات ممثليها الدبلوماسيين.

أثارت هذه التصريحات غضب الرئيس السوداني عمر البشير، ويبدو أنها كانت وراء إصداره قرارا جديدا يشمل العديد من الإجراءات الخاصة بتعيين السفراء ومدة عملهم وحقوقهم المالية.

وحسب وكالة الأنباء السودانية الرسمية “سونا”، ألزم القرار الجديد وزارة الخارجية، برفع ترشيحات سفراء البلاد مباشرة للرئيس لاختيار السفير المناسب. كما تم إرجاء إغلاق سفارتي السودان في إيرلندا والنمسا لمدة عام واحد. بشرط أن يكون في البعثة سفيرا واحدا فقط. كما تم إلغاء الملحقية القانونية بسفارة السودان في المغرب. وفي ذات الوقت الإبقاء على سفراء السودان في أمريكا وفي القاهرة لما وصف بأدائهما المتميز.

ووفق هذا القرار سيمنح السفير بدل سكن واحد فقط وإن تعددت زوجاته، والالتزام بتخصيص عربة من نوع مرسيدس واحدة فقط للسفير ، وتحويل كافة السيارات المرسيدس إلى رئاسة الجمهورية وترحيلها فوراً للبلاد.

تحديات أمام السياسة السودانية
فضلا عن التوتر الذي يهدد المؤسسة الداخلية السودانية، وتعالي أصوات المعارضة المنددة بسياسات البشير، هناك معضلة التحالفات المتنافسة، في السياسة الخارجية لحكومة السودان. حيث عرفت الأخيرة تقاربا مع تركيا بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر ديسمبر الماضي للسودان.. والتوقيع على 12 اتفاقية بين البلدين في مجالات اقتصادية متعددة، بالإضافة إلى تكوين لجنة سياسية عليا برئاسة رئيسي البلدين، تجتمع بين الخرطوم وأنقرا بالتناوب بشكل سنوي.

كما أعلن أردوغان عن عزم بلاده رفع حجم التبادل التجاري مع السودان إلى مليار دولار، خلال عام لترتفع مستقبلا الى أكثر من 10 مليار دولار.

وجاء هذا التقارب قبل أن تقدم مصر المعادية لتركيا على تقارب مشابه مدخله المصالح الاقتصادية التي سارعت السودان للتوقيع عليها، متناسية حجم الاختلاف والخصام الذي عرفه البلدان في فترة غير بعيدة، ولاشك أن التقارب المصري السوداني جاء ليصب في مصالح المحور الإماراتي السعودي الذي تدعمه مصر، وهو المنافس اللدود للمحور التركي القطري الذي سبق وأن وضع لنفسه موطأ قدم في السودان.

وتبقى السياسات السودانية رهينة القدرة على المناورة بين حليفين متنافرين ومتنافسين، وعلى قدرتها أيضا في ضبط مصالحها لتحسن من التعقيدات الداخلية التي تعاني منها على الأقل بإرضاء المواطن السوداني وتحقيق حد أدنى من التحسن في مستوى معيشته ومكافحة الفساد الإداري الذي يهدد مشاريعها الاقتصادية.

يضاف إلى هذا تحدي إرضاء الإدارة الأمريكية والاستمرار في تقديم الدلائل على حسن السلوك والتعاون في ما يسمى بالإرهاب، مع العلم أن السودان يوصف باتجاههه الإسلامي ولن تتوانى الإدارة الأمريكية في الضغط لتخفيف تأثير هذا الإتجاه بحجة الديمقراطية وإرساء الحريات في الداخل على غرار السعودية، ما قد يكون له تداعيات سلبية جدا في الشارع السوداني.

الخلاصة
وبانتظار ما تجود به الاتفاقيات الاقتصادية مع الخارج، وما يمكن للبشير تحصيله من المراوغة بين المحورين التركي من جهة والسعودي الإماراتي المصري من جهة أخرى، وما سيجنيه من سياسات أمريكية لا تقف عند حد معين، وما ستفضي إليه النزاعات الداخلية ومطالبات الانفصال وما سيترتب عن تداعيات بناء سد النهضة ووعود إثيوبيا، وما يخفيه التقارب الإثيوبي المفاجأ مع الخصم الجارة إرتيريا وما تحمله المعارضة من استعداد لتغيير هيمنة البشير على سدة الحكم، ينتظر أن يطول الأمر بالسودانيين للانتقال لمرحلة من الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي، يبدو أن أفقها لا يزال بعيدا.