“الحكم الجهادي وفن الدولة”: خلاصات

عرضنا ترجمة لدراسة نشرها معهد واشنطن لما يسمى مكافحة الإرهاب بعنوان “الحكم الجهادي وفن الدولة“، وكما هي وظيفة هذه المعاهد، هي تعتني بالبحوث والدراسات التي تعزز قوة الغرب واستراتيجياته ومنظومات هيمنته، ولذلك هي لا يهمها أن تنصف أطراف الصراعات بقدر ما يهمها أن تقدم تقييما يسمح لها باحتكار الحقيقة والقيم والمبادئ. وفي ذلك تضليل كبير ومخادعة. للجماهير. ولكن فيه أيضا تغذية لغرور صناع القرار وتطويعا للمعطيات لصالح طموحاتهم المهيمنة والجشعة والمستبدة ثم تبريرا لروايتهم المضللة.
ترصد هذه الدراسة حكم الجماعات الجهادية وتحلل مواقفها ونشاطاتها لتفسرها بالعقلية الغربية الاستبدادية، بمنطق الديمقراطية المخادعة وفرض الرؤى والأحكام الغربية على الشعوب والدول، وحتى وإن تعارضت المعتقدات الدينية والرغبات والطموحات المحلية مع نظيرتها الغربية فكل باحث في هذا البحث يحكم على الجماعات التي يرصدها بمنطق المراقب الغربي الذي يجب أن يخضع العالم لمقاييسه وأنظمته الحاكمة وقوانينه القمعية التي تتستر بستار الديمقراطية، وهنا نقطة مهمة لفهم كيف تسير هذه الدراسات والمعاهد والمؤسسات التي تشرف عليها، فهي في الواقع تقدم لنا نموذجا استبداديا واضطهاديا للغطرسة الغربية، التي لا ترى المشاهد ولا تحلل الصراعات إلا وفق منظورها الأناني والمعادي. وهو تماما ما وصلت له الديمقراطية الغربية اليوم استبداد واضطهاد وبطش بكل من يخالفها حتى لو كانت إلزامات الغرب غير أخلاقية ومنحطة ومحاربة للفطرة، فإنها ستحاول فرضها بكل وسيلة ممكنة بالابتزاز والإرهاب والتهديد والتدخل المباشر وغير المباشر في حياة الشعوب ومعتقداتها. وهي تكرس لأجل ذلك كافة المنظومات والمؤسسات والجهود الدولية.

 

الحادي عشر من سبتمر نقطة التحول

تذكر الدراسة في مقدمتها – بقلم ديفورا مارجولين وكريستوفر أنزالون – بوضوح دوافع السياسات الغربية التي تحكم وتدير واجهة الصراع، حيث جاء فيها:”في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تركز اهتمام السياسات بشكل مكثف على الملاذات الآمنة والمساحات الخاضعة للحكم البديل، مع التركيز على تنظيم القاعدة وفروعه في أماكن مثل أفغانستان واليمن والصومال. على مدى العقدين الماضيين، أصبح التحدي أوسع بكثير وأكثر تعقيدا، ليشمل الحكم الجهادي، وفن الحكم، وتوطيد السلطة. وتشارك الآن الجماعات الجهادية من خلفيات سياسية ودينية وإيديولوجية متنوعة في أشكال مختلفة من السيطرة على الأراضي والحكم. وتتجاوز الحلول السياسية بدورها مجرد الاستراتيجية العسكرية أو العقوبات المالية، فتتطرق إلى بيروقراطية الدولة، والاقتصادات المحلية، والتحالفات، والدبلوماسية، والتنافس على السلطة بين الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية والعالمية. وتزداد صعوبة صياغة سياسات مناسبة وفعالة تعقيدًا بسبب الحاجة إلى النظر في التمييز بين الحكم الجهادي السني والشيعي، والاختلافات الأيديولوجية داخل كل تيار من تيارات الإسلاموية العنيفة، وديناميكيات السلطة، وغيرها من التفاصيل الدقيقة لظروف الحكم”.
لقد قدمت خلاصة الدراسة هنا شهادة على تداعيات الحرب على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر والتي من أبرزها نجاح الحركة الجهادية في اقتلاع مساحاتها في الحكم والسيطرة بقوة وعمق والاستقلال عن منظومة الاحتلال والهيمنة الغربية بهويتها، رغم شراسة الحرب وحملات الغزو الغربي في العالم الإسلامي، لقد كان الثمن مكلفا ولكن النتائج كانت مجدية أيضا.
ولا تتردد المقدمة في الاعتراف بشيء من المعرفة بالجماعات الجهادية والجهل بها في آن واحد، حيث جاء فيها:”يفترض المسؤولون في المجتمع الدولي في كثير من الأحيان أن الجماعات الجهادية المنخرطة في الحكم وفن الحكم هي أكثر اعتدالا أو تبدو واقعية، وأقل اهتماما بالعنف الذي كان يقود تحركاتها ذات يوم. ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة، التي أبرزها الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس على المدنيين الإسرائيليين بعد مرور ستة عشر عاماً على انتقالها إلى الحكم، تظهر حقيقة معاكسة”,
ويبدو واضحا تأثير طوفان الأقصى في محاولات الغرب لفهم دوافع وطموحات الجماعات الجهادية، فهم يعتقدون أن إلقاء بعض الفتات للجماعات من حيث السماح لها بالعيش في حصار خبيث كما هو حال المقاومة الفلسطينية، سيكون كافيا لإرضاء طموحاتها، لكن في الواقع يتناسى المؤلفون حقيقة أن فلسطين بلاد محتلة في مفاهيم الشعب الفلسطيني وأن المقاومة الفلسطينية هي مقاومة ضد الاحتلال، لو قرأنا الواقع بهذه الطريقة التي يجمع عليها المسلمون، لوصلنا لنقطة التقاء مع المؤلفين للدراسة ولكن الواقع أنهم لا يعترفون بهذه المعطيات بداية ويرون الاحتلال الإسرائيلي كيان دولة يحق له التواجد والبطش والاعتداء محاطا بالدفاعات الغربية
لقد  جاءت هجمات السابع من أكتوبر لتعيد للذاكرة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولتؤكد من جديد أن المعطيات والخلاصات والواجبات لم تتغير، فلا يمكن التحرر بدون ضرب العدو ضربات مزلزلة، ولذلك ستتكرر هجمات كهذه مستقبلا لأن دوافعها لا تزال موجودة وطموحات الشعوب التي تعاني الاحتلال للاستقلال لا تزال تغذي حركات المقاومة والجهاد بداخلها وهو حق مشروع على امتداد محور التاريخ والأعراف الأممية والدين. وهذا يعني أننا سنشاهد نتائج هجمات السابع من أكتوبر بعد مدة من الزمن وسنعرف تداعياتها على الاحتلال والهيمنة في المستقبل وليس في اللحظة الراهنة مهما أظهر العدو من غضب وشراسة انتقام، تماما كما حدث مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

 

مفارقات

ولو قارنا بين رؤية الدراسة التي ترى “الجماعات الجهادية غالبا ما تستخدم سيطرتها على الأراضي والسكان لتجنيد وتمويل الهجمات العنيفة، بينما تسعى في بعض الحالات في الوقت نفسه إلى الحصول على الشرعية” وتتناولها من باب النقد والانتقاص. نتساءل حقا أو ليس هذا النهج نفسه الذي تنتهجه الدول اليوم؟ ومن أين يتم تمويل الجيوش الغربية وحملات الهيمنة والحروب؟ أليست  الشعوب تتحمل عبء الضرائب المجحفة التي تفرضها الحكومات؟ لماذا لا يجري الباحثون دراسات مماثلة لهذه على الأنظمة الغربية،  أم أنهم سيجدون أنفسهم يواجهون الحقيقة نفسها، فأي نظام حوكمة هو يستفيد من مدخرات الحكومة لتوجيه سيطرته، لكن الغرب لا يقر بهذا الحق للجماعات الجهادية مع أنها لا تفرض الضرائب المثقلة لكاهل المواطن كما يفعل الغرب والذي وصل لإجبار المواطنين على دفع تكاليف حروبه الوحشية. ومع أنها لا تعاني فساد حكوماته الوكيلة الصارخ الذي وصل لحد لا يمكن استيعابه، ولكن الحقوق توزع بحسب الاستحقاقية الغربية بمنظور الكتاب وليس بحسب متطلبات الصدق والإنصاف.
وبالنظر لمقدمة المؤلفين لهذه الدراسة، فإن الحادي عشر من سبتمبر يقدم إجابات واضحة لماذا تسعى الجماعات الجهادية لإقامة أنظمة حكم تستوعب التحديات التي تواجهها في مقدمتها معارضة الغرب لوجودها، مع أن هذا الغرب نفسه من خضع في نهاية المطاف لطالبان الإرهابية! فهو بعد عقود من القتال والاستنزاف والشيطنة للإرهابيين الأفغان، انتهى إلى الاستلام لحقيقة أن من حق الأفغان أن يحكموا بلادهم وفق دينهم ومعتقداتهم، وأن محاولة فرض الديمقراطية عليهم بقوة السلاح كانت فكرة غبية وفاشلة ومكلفة.
 والمفترض أن تؤدي تجربة طالبان في أفغانستان للنتائج نفسها في كل ساحات الصراع لكن سعة عقل الغربي للحقائق تضيق! ولا يتعلم إلا بعد إثخان الضرب والخسائر فيه. ومسلسل التناقضات الغربية لا ينتهي!

 

التضليل القبيح

لا يوجد نوع موحد من الحكم الجهادي. وبالتأكيد من الواضح أن هناك جماعات تسعى إلى الحصول على الشرعية الدولية بينما لا تسعى إليها جماعات أخرى كما أشارت الدراسة. ولكن ما يلفت الانتباه في نقد استنتاجات ورشة عمل المؤلفين هو محاكمتهم للشعوب والجماعات الجهادية وفق مفاهيم وقوانين الديمقراطية الليبرالية. وهذا يصنع مسافة كبيرة جدا بين التنظير المستبد وبين الواقع الجاري.
فلو نظرنا لمصلطح العنف الذي ينتقده المؤلفون في الجماعات الجهادية، هل يعترفون من جهتهم أن حكومات ودول تمارس العنف أيضا لفرض نفوذها وسلطانها، فها هي الصين تقمع شعبا كاملا “الإيغور المسلم” وتفسر ذلك بحقها الشرعي في حفظ سيادتها ولم تصنف إرهابية، وأما الدول الغربية فما أسرعها في تحريك الجيوش لفرض رؤاها ورغباتها على الشعوب وإن خالفتها ورفضتها بالمقاومة والجهاد ولم تصنف جيوش الاحتلال إرهابية، لقد تدخلت الجيوش والقوى والأذرع الغربية في الصومال المسلم مع أنه لا مكان لها بين القبائل المسلمة ولا ترحيب بها هناك إلا أن الغرب فرض بها حكومة هشة ديمقراطية من شتات الفاسدين الموالين له، وفرضت هذه الحكومة الفاسدة بالقوة على الشعب الصومالي الذي تربى على التعاليم الإسلامية والكتاتيب، فكيف ستكون هذه الحكومة أكثر تمثيلا له من حركة الشباب المجاهدين التي دافعت عنه خلال الغزو الإثيوبي للبلاد وطردت القوات الغازية الإثيوبية! إن المؤلفين في هذه الدراسة بحاجة فقط لبعض الصدق مع أنفسهم بتوجيه الأسئلة نفسها في حال الحكومات الغربية وأيضا لبعض الصدق في الاعتراف أن الجماعات الجهادية ولدت من رحم شعوبها، وأن الاحتلال هو سبب انبعاثها واستمرارها.
ثم إن عناية الدراسة بالجماعات الرافضية يصنع نوع ظلم في طرحه، فالجماعات الرافضية مدعومة من دول ومنظومات وليس حالها كالجماعات السنية، وإيران دولة تدعم أفرعها بشكل علني وقانوني يعتبر في دستورها، وكذلك الغرب الذي قدم العراق على طبق من ذهب للميليشات الرافضية، فمحاولة إقحام هذه الجماعات بمنظور المتمرد الإسلامي مجرد تحايل على الحقيقة ودوران بعيد عنها، لأن الواقع أن الجماعات الرافضية تحمل مشروعا مختلف تماما عن المشروع الإسلامي وتتفق مع الغرب أكثر بكثير من غيرها وقد انضمت لأحلافه في العراق وسوريا فعلام إخفاء هذا الجزء من الحقيقة.
ومما يلفت الانتباه في طرح استنتاجات الدراسة إصرار المؤلفين على اعتبار إمارة طالبان الإسلامية مجحفة في حق الفتيات والنساء، ويتولد هذا الحكم من منطق النسوية والليبرالية لا الإسلام الذي يجب أن ينظر له عند محاولة قراءة الصراعات في واقع العالم الإسلامي، فأن تحكم على شعب مسلم من منظور نسوي وليبرالي فهذا حقيقة هو عين الاحتلال والهيمنة والاضطهاد، فلينزل قليلا الباحث الغربي من برجه العاجي وليخاطب الشعوب وفق معتقداتها وتاريخها وهويتها التي انتهى به الأمر بإعلان الحرب عليها!
ومن استنتجات الدراسة المضللة، رؤيتهم للحكم الجهادي الذي لا ينشأ من فراغ. إلى أنه في معظم الحالات نتيجة الاستجابة لبعض الفراغ داخل مجتمعهم. وقد ينطوي هذا على الفوضى أو الخضوع للحكم. ولكن الباحث الذي وصل لهذا الاستنتاج قد تجاهل معلومة مهمة جدا تهدم بنيان طرحه، فهذه الجماعات لم تنشأ من فراغ بل نشأت من وطأة الهيمنة الغربية على شعوبها واستعداء دينها ومعتقداتها، ومثال على ذلك حركة الشباب المجاهدين من أين خرجت؟ خرجت بعد الغزو الإثيوبي الأمريكي للصومال، للإطاحة باتحاد المحاكم الإسلامية الذي قرر تطبيق الشريعة التي يرتضيها المسلمون ويطالبون بها،  وقد نجح الاتحاد في صناعة الاستقرار والأمن لمدة نصف سنة لكن الغازي الأمريكي لم يكن ليسمح للشعب الصومالي بالاستقلال بدينه وهويته بعد حرب أهلية طاحنة على إثر سقوط الدكتاتور سياد بري، وبعد أن خرجت حركة الشباب المجاهدين للدفاع عن الشعب المسلم الذي تجرع مجازر الجيش الإثيوبي وتجرع مرارة فساده في الأرض، يخرج لنا الإعلام الغربي المنافق والظالم، ليصف الحركة بأنها حركة إرهابية، بينما جيش إثيوبيا وأمريكا هم أبطال التحرير بالديمقراطية المحاربة!
لم نر بحثا يعدد مجازر الإثيوبيين بحق الشعب الصومالي المسلم ولن نر الباحثين يتعمقون في سبب ظهور حركة الشباب المجاهدين بل كل الدراسات سطحية معادية، همها القضاء على الحركة ووصمها بالإرهاب ببلادة، وإن كان في ذلك إخفاء للحقيقة وطمس للتاريخ وقلب للمصطلحات والمقاييس. وفي ذلك عامل استمرارية للجهاد لو يدركون!
لقد اغتصب الجنود الإثيوبيون عند اقتحامهم القرى والبلدات الصومالية نساء بسن التسعين وبنات في سن الطفولة! ولم نر حينها النفاق الغربي يتصدر لحماية المرأة، ولا للمطالبة بحفظ النساء كما يصدعنا بأبواقه حول أفغانستان، مع أن حركة طالبان قامت بالأساس للدفاع عن أسر مسلمة خطفت بناتها واغتصبت.
وفي استنتاجات الباحثين المرفهين، يجدون الحكم الجهادي لا يختلف كثيرا عن حكم الجماعات المتمردة ففي الأخير أي سلطة لها أركانها ووسائلها التي تقيمها بحسب ما يتوفر من معطيات وفي واقع التمرد والعدوان، من الطبيعي جدا أن تقترب هياكل الحكم في نماذجها إلا أن الحكم الجهادي يحتكم لشريعة ربانية ولذلك يستقوي بشكل أسرع بكثير من غيره لطبيعة أحكام الإسلام ومنظوماته، ولو أن الغرب كفّ عن حرمانه حقه في الوجود لوجدنا نماذج حكم يتعلم منها الغرب كيف يكون الأمان والعدل والاستقرار والازدهار الذي تنعم به الشعوب، لكن منطق المحتل مستبدّ جشع ومعتدٍ.

 

معاداة السامية مفتاح لفهم الصراع

يتساءل القائمون على ورشة العمل للدارسة: “هل يمكن للمرء أن يفهم تصرفات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول دون فهم وجهات نظرها الأساسية حول شرعية الجهاد والمقاومة أو نظرتها العالمية المعادية للسامية فيما يتعلق بـ”إسرائيل”؟
وبعد سبعة عشر عاماً من إدارة قطاع غزة، لا يبدو بالتأكيد أن الحركة قد خففت من العنف أو نبذته”.
وهنا نلاحظ كيف أن تحريم معاداة السامية مطلب متفق عليه تُبنى عليه خلاصات وتوجهات الباحثين في هذه الدراسة لكن هل يعتقد هؤلاء بحرمة معاداة الإسلام؟ في الواقع لا يعتقد هؤلاء العبيد للصهيونية سوى حرمة معاداة السامية وهنا نقطة اختلاف كبيرة تلهب الصراع وتشعله باستمرار.

 

ما وراء الدراسة

تحاول الدراسة فهم سبب حكم الجهاديين، وتعرض مقارنات بين الجماعات الجهادية، وتغوص في بعض نماذجها وترصد الاختلافات بينها وآليتها في السيطرة وتحديات هذه السيطرة، ونقاط التماس مع المنظمات الدولية الإنسانية، وتنتهي إلى تقييم هذه التجارب التي تختلف بحسب الموقع والجماعة،  كما تسلط الضوء على استراتيجية التمكين وتأثير الصراع الدولي في إفشال السياسة العسكرية الغربية لصالح الجماعات الجهادية وكيف أن التمرد يحقق الحكم وإن اختلفت دوافعه.
ولي هنا وقفة مهمة مع أبرز قسم للدراسة، وهو  مشهد التهديد الإرهابي الحالي بقلم دامون ستيفنز الذي يقول بوضوح:” ونحن نقترب من الذكرى السنوية العشرين لإنشاء المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، أنا ممتن لإتاحة الفرصة لي اليوم للتعبير عن تقديرنا الصادق للعمل المؤثر الذي يقوم به معهد واشنطن وجميع شركائنا عبر الأوساط الأكاديمية ومجتمع معاهد السياسات الذين يساهمون في هذا المشروع الواسع لمكافحة الإرهاب (CT) الذي تم بناؤه وحقق نجاحات كبيرة خلال العقدين الماضيين.
نجحت الولايات المتحدة، بمساعدة شركائنا، في تقليص العديد من الملاذات الآمنة للإرهابيين، وتفكيك الشبكات المالية غير المشروعة التي تمول الأنشطة الإرهابية، وتجزئة شبكات داعش والقاعدة. ومع حلفائنا وشركائنا، نواصل التركيز على الإدارة الاستباقية لبيئة تهديد شديدة التنوع، حتى في خضم أولويات الأمن القومي الأخرى. وهذا يعزز أهمية الاهتمام المستمر والضغط على خصومنا بينما نسعى إلى البقاء منضبطين ومركزين ضد أوضح التهديدات التي تواجه الوطن والولايات المتحدة في الخارج”.
يسعى المؤلف الصريح إلى فهم التهديد الإرهابي المتطور والتكيف معه والحفاظ على قدرة حكومة الولايات المتحدة على التحذير من التهديدات الإرهابية والرد عليها بسرعة والفهم الكامل لقدرات مكافحة الإرهاب والقيود المفروضة على شركائهم والتكيف معها.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن البحث لم يأت ليقدم رؤية صافية نقية عن الحكم الجهادي كما هو وإنما لإبرازه في شكله المطلوب دوليا والتعامل معه بمنطق المطارد.
ولو تأملنا أعمق في جذور طرح الدراسة لوجدنا أساسه حماية أمن الاحتلال الإسرائيلي، فمعالم الدراسة والبحث كلها تنطلق من الخشية من تكرار هجوم مثل هجوم السابع من أكتوبر،
بقول المؤلف:”فإن الصراع بين “إسرائيل” وحماس هو تذكير صارخ بأننا يجب أن نتبع بشكل جماعي أساليب مبتكرة لجمع وتحليل المعلومات لضمان أن تظل جهود مكافحة الإرهاب فعالة وكفوءة ومتكاملة بالكامل. يجب أن نكون حذرين في الحفاظ على الجوانب الرئيسية لبنية مكافحة الإرهاب للتعامل مع مجموعة لا يمكن التنبؤ بها بطبيعتها من الخصوم الإرهابيين، حتى ونحن نواجه عددًا لا يحصى من تحديات الأمن القومي الأخرى التي تحدث في الخارج وهنا في الولايات المتحدة.”
وفي هذه الخلاصة التي يكتبها المؤلف، سيحسم الصراع، فالواقع أكبر من الولايات المتحدة وحلفها والاحتلال الصهيوني، وواقع الجماعات الجهادية أكبر أيضا من مساحة الدراسة التي بين أيدينا.
ثم بين معالم الدراسة يعترف المؤلفون على خجل بنجاحات الحكم الجهادي وبتحقيقه أهم وأبرز مطلب تحلم به الشعوب وهو العدل، نجد ذلك واضحا في استقصاءات  كريستوفر أنزالون الذي لم تتمكن مقالته من حجب نجاحات حركة الشباب المجاهدين وحكمها الإسلامي، ولذلك، ختمت الدراسة هذا الفصل، بكتابة الملاحظة التالية:
“الآراء الواردة هنا تعكس فقط آراء المؤلف وليست آراء قوات مشاة البحرية الأمريكية أو وزارة الدفاع أو أي جزء من حكومة الولايات المتحدة”.
لنرى أن الحقائق توجعهم فيتملصون منها.
والأمر نفسه مع إمارة أفغانستان الإسلامية فلم يتعظ الغرب بعد من غطرسته ويتنازل لحقيقة أن ثبات ورسوخ حكم طالبان لم يأت من فراغ وأن الشعب الأفغاني أفضل وأكثر أمانا تحت حكم إسلامي من العيش تحت حكم ديمقراطي ليبرالي نسوي يتصادم ومعتقداته ويحارب دينه وفطرته، ولكن المحتل لا يستوعب الدروس رغم ما تكبده من خسائر ولذلك يستمر الصراع!

 

الإرهاب المحمود

في الواقع بالنظر لما جمعته الدراسة بشأن الجماعات الرافضية والحوثيين يقدم المؤلفون دليلا آخر على الإرهاب المحمود الذي يحظى بقبول الشرعية الدولية، فمنظمة الحوثي لم تتحول لمنظمة إرهابية إلا بعد أن ضربت الاحتلال الإسرائيلي لكن قبل ذلك سفكت دماء الشعب اليمني المسلم واغتصبت حقه في الحكم وضربت الجوار، كل ذلك لم يحرك الحكومة الأمريكية لتنصيف هذه الجماعة إرهابية بل حتى بتماديها في التهديدات وتوسيع رقعتها العسكرية ووضوح انتمائها لإيران ووضوح أهدافها التوسعية. لنرى أن مصالح الرافضة تجتمع بلا شك مع مصالح الغرب ولذلك إدراجهم في هذا الرصد عبثي، فإيران دولة إرهابية بهذا المفهوم، لماذا إذا تُعامل الجماعات السنية معاملة متمردة بينما تعامل إيران معاملة دولة محترمة ذات سيادة!
ما الذي يحكم الحق في السيادة والاحترام، مع أن جماعات إيران مدرجة الآن في قائمة التمرد.,؟! إذا حق للجماعات الجهادية أن تكافح لأجل شرعيتها واحترامها وسيادتها على عكس ما يسعى له الغرب من سلبها كل حق في الوجود.

 

ماذا يعني وجود حكم جهادي وفن قيادة الدولة؟

في الواقع بعيدا عن محاولات الدراسة توظيف معطياتها لصالح ما يسمى مكافحة الإرهاب فإنها قدمت دليلا مؤكدا  على نجاح الجماعات الجهادية في تحقيق أهدافها الواعدة، وهو نجاح يتصل بنجاح هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي مهما كانت مكلفة فقد كانت مجدية في كسر الهيمنة وإحداث مناطق تمرد في الخريطة تطبق الشريعة الإسلامية التي هي جوهر الصراع مع الغرب بمؤسساته التي تحاول فرض الديمقراطية وحرمان الشريعة من وجودها الشرعي في العالم الإسلامي.
وإن شئت الصدق فالصراع هو بين الديمقراطية الغربية والشريعة الإسلامية، ولذلك التمكن من صناعة وحفظ مساحات حكم جهادي عصيّة على أعدائها يعد نجاحا عظيما في الصراع الممتد، واعتراف المؤلفين بحقيقة تمكن استراتيجيات المجاهدين من تثبيت أركان حكمهم وكسب عوامل البقاء وتحقيق العدالة التي أجهضت فرص الحكومات العميلة في البقاء، نصر عظيم آخر لأمة الإسلام وهزيمة للغرب.
وهذا يجعلنا نرجع قليلا لمفهوم الإرهاب الذي يحاربنا بشماعته الغرب، نحن نرى كيف يتعمد المؤلفون والصحافيون الغربيون وصم الجماعات الجهادية بالإرهابية باتهمامها بشهوة القتل للمدنيين، ومحاولة تصويرها كجماعات متوحشة تقاتل لأجل القتل لمجرد القتل وتستهدف المدنيين، وهذه أكبر أكذوبة تغذت عليها العقول خلال صراع الغرب مع الجماعات الجهادية، فها هي دراساتهم تتحدث بدون أن تشعر عن أهداف هذا الإرهاب الذي يقتل المدنيين بزعمهم، فها هو يحكم ملايين الشعوب تحت راية الجهاد ويقدم نموذج حكم تنافسي قوي لحكوماتهم العميلة، فأين هو قتل المدنيين الذي يفترون؟ وأين هي أهدافه الدموية الوحشية؟ ولو أحصينا عدد القتلى المدنيين على يد الجيوش الغربية ووكلائها لفاقت جميع الأرقام والإحصائيات التي يتهم بها المجاهدون وإن صدرت من مراكز إحصاء العدو، إنها الوحشية التي لا قاع لها، ولا منافس، لقد قتلت أمريكا لوحدها الملايين من العزل المدنيين وقضت على شعوب برمتها ولا تزال تحاضر في مكافحة الإرهاب بينما هي وفق معايير هذا الإرهاب ومواصفاته أكبر إرهابي مجرم في العالم وسفاح مطلوب للعدالة.
ويكفي النظر في ضحايا الطائرات بدون طيار، لقد أصبحت صفحة عار على الغرب ومثال الانحطاط الأخلاقي، كم قتلوا من المدنيين الأبرياء وتنصلوا من مجرد تعويضهم والاعتذار عن قتلهم! ثم يتحدثون عن الإرهاب؟ بل هذه الممارسات المنافقة هي التي تصنع الإرهاب وتديمه وترتفع معها حصونه.
والأمر يعيدنا من جديد لدور الإعلام في بث الكذب والأراجيف بشان هجمات المجاهدين، فحتى لو أصابت عقر مركز الاستخبارات سيكون القتلى في عناوين الأخبار: أطفال في مدرسة ومطعم شعبي، لقد اعتاد هذا الإعلام استغفال الشعوب والرقص على جثث قتلى المسلمين والدفاع عن المجرمين الذين يتصدرون بهيئة دولة ومؤسسات دولية. بينما تقصف طائراتهم بيوتا مدنية بشكل متعمد ويتحول الخبر إلى استهداف وكر للإرهابيين، فيا لصفاقتهم ونفاقهم. ويكفي من ذلك ما تعيشه غزة اليوم والذي سيكون وقود الجهاد لعقود طويلة من الزمن، مهما تبجحوا بجريمة معاداة السامية وحماية “إسرائيل”.
لا يوجد جريمة اسمها الإرهاب، بل يوجد حق مشروع في طرد المحتل وقطع حبال هيمنته والاستقلال بشريعة الله وهوية الإسلام بالإرهاب. وهنا تختلف المعطيات تماما عما يخفيه الغرب في خطاباته التي اكتسحت العالم وفرضت بالإرهاب الأمريكي على مساحات التدوال والتفكير وأصبح كل ما يخالف الرغبة والجشع الغربي إرهابا.
فيا له من إرهاب مطلوب.

 

توصيات للجماعات الجهادية

على ضوء ما طرحته الدراسة أرى ضرورة العناية جدا بنقل الصورة الحقيقية للحكم الجهادي للعالم الإسلامي ومراعاة الخطاب الإعلامي الصادق والموثق لنشاطات ومشاريع أهل الجهاد في ثغورهم، وما حققوه طيلة هذه العقود من القتال بيد والبناء بيد أخرى، وهو حقيقة بطولة تتسطر يجهلها الكثيرون.
كما يجب العناية بدراسة خريطة التدافع الذي يصنعه الصراع الدولي، فدخول روسيا إلى إفريقيا وتمكنها من إهانة فرنسا وأمريكا وقعت نتائجه في صالح الكفة الجهادية بفضل الله تعالى وها هم المجاهدون في الساحل يقطفون  ثمار صبرهم وجهادهم ورباطهم الطويل في تلك الأرض، ومصير المحتل الخروج حتما وكما عجز الغرب في الساحل ستعجز روسيا فقد دخلت مستنقعا يصعب عليها الخروج منه سالمة.
وأعتقد أن دخول المنافسين الرئيسيين للغرب في الساحات الجهادية كروسيا والصين، والولكلاء المستقلين كتركيا، ليس إلا مرحلة انتقالية نحو التمكين الكامل للجماعات الجهادية. وليس إلا دليلا على نجاح الحركة الجهادية في دحر الغزو الغربي في مناطقها. وتأكيد انتقالها من مرحلة الصمود إلى مرحلة التمدد.
وهو ما يجبر الغرب على التعامل معها وفق استراتيجية الاحتواء بدل الاقتلاع التي أعجزته.
من هنا تظهر لنا أهمية رصد تطورات الساحة الدولية والصراع بين القوى الكبرى والاستفادة من خلافاتهم كما استفادوا من خلافاتنا بل والاستعداد بهمة ونشاط وشمولية لملء الفراغ الذي سيحدث بعد الانحسار الغربي من العالم الإسلامي القادم حتما.
فواقع الولايات المتحدة لن يستمر قويا بعد أن دخل مرحلة الاضطراب وواقع العالم الإسلامي لن يبقى متفرجا بعد أن عرف صعود الجهاد ولذة إنجازاته.
وستبقى فلسطين قضية مصيرية تحرك مشاعر المسلمين وتوجهاتهم وما أحدثه الطوفان كان أكبر من الخسائر على الأرض، فقد أحدث زلزالا جهاديا في النفوس، واستيقظت أنظار الكثير من الشباب بعد معاينة حجم الطغيان الغربي اليهودي وصفاقته، إلى ساحات الجهاد وأصبح حلم الجهاد في سبيل الله أكثر تألقا!
ولله الحمد فقد قطعت الجماعات الجهادية شوطا مبشرا لاحتضان كل هذه الأحلام الواعدة، وامتلكت خبرة قيادة وحكم عظيمة، وأعدت لفصول صراع طويل جدا من الأجيال المجاهدة والاستراتيجية المرنة الذكية طويلة الصبر والأمد والمدد.
ولعل من المهم أن نخرج دراسات أكثر واقعية ومصداقية عن الحكم الجهادي وفن الدولة بأقلام نزيهة ومتخلصة من عقلية المحتل، لنقدم خلاصات أكثر اتساقا واستمرارية الصراع بين المحتلين والمجاهدين.
وتبقى في الختام كلمة للباحثين في هذه الدراسة، أرى من المهم لهم إجراء دراسات عن “الحكم الديمقراطي وفن الاستبداد”. فهو أفضل ما يجب العناية به لإسقاط قناع الشرطي الواعظ وإظهار الوجه الكالح للمحتل الوقح.
وأنا على ثقة أن ما ستكشفه دراسات من هذا القبيل لن تسعف أكبر مرقع باحث لإبعاد تهم الفساد والظلم والإرهاب ونهب الضرائب وابتزاز الشعوب الغربية المضللة.
ولو قدمنا مقارنة بين حياة هذه الشعوب في ظل حكم ديمقراطي يفرض عليها الشذوذ والبهيمية ودفع فواتير حروبه وبين حكم الشريعة الإسلامية النقي والمراعي لحفظ الفطرة البشرية لأدركت الشعوب الفارق الأخلاقي الكبير بين المنظومتين.
لم تنجح جميع استراتيجات الغرب في شيطنة الجهاد وكتم نجاحاته، لقد انتصر الإسلام بأخلاقه وهزم الغرب بانحطاطه.
جهاد محمد حسن

 

حمل الخلاصات بصيغة PDF من هنا