أي دلالات للتحول الأمريكي الجديد نحو أسمرا؟
سلط مقال نشره محمود أبو بكر، الصحافي المختص في شؤون القرن الافريقي على صحيفة أندبنتدت الضوء على موقع أسمرا في الصراع في شرق إفريقيا.
وبحسب الكاتب، في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن استراتيجيتها الجديدة تجاه دول عدة. تقرير “الاستراتيجية القطرية المتكاملة الأمريكية الجديدة (ICS) تضمن تحولاً جزئياً تجاه حكومة دولة إريتريا، في محاولة لإحداث نوع في الديناميكيات الإقليمية، إذ اتخذت سياسات واشنطن منعطفاً مهماً تجاه أسمرا من خلال مراجعة وتحديث السياسات السابقة.
وأكد التقرير الجديد ضرورة إيلاء البعثة الأمريكية المعتمدة في أسمرا اهتماماً جديداً من سبيل تشجيع إريتريا على أن تصبح عضواً استباقياً وبناءً في المجتمع الدولي، بما في ذلك السعي المستمر لتحسين العلاقات مع الدول المجاورة وداخل منطقة القرن الأفريقي، وفيما أبقت واشنطن على العقوبات المفروضة على أسمرا، أوصت سفارتها إلى فتح خطوط اتصال لإقامة قواسم مشتركة تخدم مصالح شعبي البلدين. بحسب الكاتب.
وأشار التقرير إلى أن اتفاق وقف الأعمال العدائية المبرم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بين الفرقاء الإثيوبيين وضعت حداً لصراع دام عامين في شمال إثيوبيا وعجل بانسحاب القوات الإريترية من منطقة تيغراي. ونوه بأن عملية السلام وخفض تصعيد الوجود العسكري لإريتريا يوفران فرصة لإعادة تشكيل العلاقات الثنائية مع إريتريا إلى نهاية أكثر إنتاجية، بما في ذلك السلام والتنمية في القرن الأفريقي. كما أوصى سفارة واشنطن في أسمرا ببذل جهود مضاعفة للبناء على هذا التغيير الإيجابي وزيادة التفاهم بين شعب الولايات المتحدة وشعب إريتريا. بحسب الكاتب.
وقال الكاتب:”يهدف هذا التحول، وفقاً لحكومة الولايات المتحدة، أيضاً إلى دعم تواصل إريتريا مع القادة الإقليميين، وخصوصاً كينيا، وانضمامها مرة أخرى إلى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (IGAD)، مما يشير إلى الاهتمام المتجدد بالتعاون الإقليمي”.
يأتي ذلك في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الإريترية- الإثيوبية توتراً صامتاً على أثر التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، حول سعي بلاده لامتلاك منافذ في البحر الأحمر، إذ أطلقت أسمرا، حملات إعلامية وتعبئة عسكرية، رداً على استفزازات الحكومة الإثيوبية، وصلت إلى مستويات غير مسبوقة هذا العام. بحسب الكاتب.
استعادة النفوذ
ونقل الكاتب رؤية المحلل السياسي الإريتري سليمان حسين الذي يقرأ التحول الأمريكي الجديد في رؤية واشنطن تجاه أسمرا، بعد أكثر من عقدين من العداء، بأنه “ناتج عن التطورات الدولية والإقليمية التي كشفت عن انحسار دور الولايات المتحدة الأمريكية وتراجع نفوذها في القارة الأفريقية” مقابل تمدد النفوذ الصيني- الروسي.
وينوه المتخصص الإريتري إلى أن “واشنطن تحاول استعادة دورها، ومحاولة محاصرة المنافسين الدوليين لها”، بخاصة مع المؤشرات الجديدة التي توحي ببداية نهاية نظام الأحادية القطبية، سيكتبها فشل السياسات الغربية في أوكرانيا، وبداية بروز تيارات جديدة في أفريقيا تحاول النأي بنفسها من السيطرة الغربية.
ويوضح حسين بحسب الكاتب، أن ما كشفته الولايات المتحدة الأمريكية، في الوثائق التي أفرجت عنها وزارة خارجيتها، وإن مثل توجهاً جديداً في سياساتها، فإن ذلك سيظل مرهوناً بمدى مطابقته للواقع الفعلي على الأرض، إذ لم تقدم واشنطن -حتى الآن- أي بوادر عملية، لتأكيد تلك الرغبة، كرفع العقوبات الأحادية المفروضة على أسمرا، سواء اقتصادياً أو تجارياً، إذ إن التعبير عن الرغبة وحدها لن تكون كافية لإحداث التغيير في استراتيجية واشنطن تجاه إريتريا.
ويضيف “في اعتقادي الولايات المتحدة تتبع سياسات براغماتية، فتحول موقفها من مبدأ إسقاط النظام الإريتري إلى التعاون معه” قد يقود في نهاية المطاف إلى رفع العقوبات المفروضة، في حال أبدى النظام الإريتري عن استعداده للتعاون معها.
ويؤكد أن نظام بلاده لم يكشف حتى الآن عن موقفه تجاه هذا التحول الأمريكي الجديد، مرجحاً أن تكون ثمة اتصالات سرية قد تمت بين أسمرا وواشنطن قبل إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إريتريا، وعلى رغم أن ذلك لا يمكن التنبؤ بموقف أسمرا، ومدى استعدادها للتعاطي إيجاباً مع التوجه الجديد، إذ إن تجربة العقدين الماضيين من الزمن قد تمثل حاجزاً كبيراً أسهم في فقدان الثقة بين الطرفين، مما يتطلب جهداً أكبر لبناء هذه الثقة، بخاصة أن لدى الطرفين مصالح جوهرية لإعادة ترميم العلاقات الثنائية، لا سيما في ظل الأوضاع المضطربة في منطقتي القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر.
وأوضح أن ثمة مصالح مشتركة قد تدفع الطرفين للدخول في مفاوضات مثمرة، إذ ليس من مصلحة إريتريا تبني سياسات معادية لواشنطن، كما تسعى الأخيرة إلى الحفاظ على نفوذها في هذه المنطقة التي تعد أحد أهم الممرات المائية لمصالحها التجارية والاقتصادية والجيوسياسية.
فشل سياسات الولايات المتحدة في المنطقة
ويرى حسين أن الحرب الأخيرة في تيغراي كان لها أثر كبير في فشل سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، إذ تمكنت إريتريا من الخروج من أتون تلك الحرب، وقد فكت عزلتها الدولية والإقليمية، وبدأت تلعب أدواراً مهمة في قضايا المنطقة، سواء في إثيوبيا أو السودان أو منظمة الإيغاد، بالتالي رأت واشنطن ضرورة احتوائها ضمن الديناميكيات الإقليمية في المنطقة، عوض معاداتها.
ويرى الباحث أن الولايات المتحدة تبحث عن حليف جديد ويرى أن ذلك قد يكون انعكاساً لعدة معطيات استراتيجية وجيو-سياسية، منها: انزلاق كل من السودان وإثيوبيا، في حرب داخلية قد تفضي إلى إضعاف الدولتين كلاعبين أساسيين في منطقة القرن الأفريقي.
ويضيف أن “ثمة احتمالات جدية توحي بإمكانية تفكك الدولتين إلى دويلات صغيرة وضعيفة، فضلاً عن أن الوضع في الصومال لا يزال يعاني من آثار الحروب الأهلية التي استمرت لثلاثة عقود، في حين تعد إريتريا نسبياً أكثر تماسكاً واستقراراً، الأمر الذي قد يدفع الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في علاقاتها مع أسمرا.
ويوضح أيضا أن “التقارب الإريتري الوثيق مع كل من الصين وروسيا قد يعني في ما يعنيه إيجاد موطئ قدم للدولتين في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي وتعزيز مواقفهما، كقوى عالمية صاعدة، مما يهدد الهيمنة الأمريكية على المنطقة.
ويؤكد المتخصص بشؤون القرن الأفريقي أن “التطورات الإقليمية الأخيرة، بما فيها الحرب في غزة، وتداعياتها على منطقة باب المندب، وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، من قبل الحوثيين في اليمن، بالضرورة قد يدفع الولايات المتحدة للتفكير في إيجاد حلفاء في المنطقة للتصدي لأي أخطار ومهددات متصاعدة لأمن الملاحة في أحد أهم الممرات المائية في العالم.
وعن رد الفعل الإريتري، يقول “قد يستغل نظام الرئيس أسياس أفورقي الفرصة لتحسين علاقاته بالإدارة الأمريكية، شريطة أن لا تمارس عليه ضغوطاً مكثفة في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان في إريتريا، والسماح له بلعب أدوار محورية في قضايا القرن الأفريقي.
وأضاف أن “مآخذ النظام الإريتري على أميركا لم تكن لأي أسباب استراتيجية أو معاداة للمصالح الأمريكية بقدر ما ظلت تتعلق بـالانحياز الكامل إلى رؤية الأنظمة الإثيوبية المتعاقبة، بالتالي فإن سعي واشنطن إلى تبني علاقات متوازنة مع كل من أسمرا وأديس أبابا قد يكون كفيلاً بطي صفحات الخلافات الأمريكية الإريترية.
ورجح سيد أنه في حال تحقق هذين المطلبين لأسمرا فإنها لن تمانع من التفاعل الإيجابي مع المبادرة الأمريكية من دون التخلي كلياً عن علاقاتها بالصين وروسيا، متوقعاً رفع العقوبات المفروضة على أسمرا، في حال تجاوب الأخيرة، مع المبادرة التي طرحتها واشنطن.
وأكد أن العقوبات الأمريكية ضد الدول تعد جزءاً أساسياً من سياسة “العصا والجزر” التي تستخدمها واشنطن “للضغط والترغيب” ضد الدول التي تحاول اتباع سياسات مستقلة، بالتالي فإن رفع العقوبات المفروضة على النظام الإريتري قد يكون مرهوناً بمدى تجاوبه الإيجابي مع التوجه الأمريكي الجديد.
احتواء أسمرا
من جانبه بحسب ما نقل الكاتب، يرى إبراهيم إدريس المتخصص في الشؤون الأفريقية أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إريتريا جاءت بعد جملة من التطورات الدولية والإقليمية، مؤكداً أنها تأتي كجزء من سياسات احتواء النظام الإريتري، لا سيما بعد فشل معظم السياسات السابقة.
وأوضح إدريس أن أسمرا ظلت تتبع سياسات مستقلة تعتمد بالأساس على مبدأ الاعتماد على الذات، في منأى عن التأثيرات الدولية، بما فيها مشاريع البنى التحتية، فضلاً عن السعي إلى بناء تحالفات مناقضة للتوجه الأمريكي، إذ شهدت الفترة الماضية نشاطات دبلوماسية مهمة، للرئيس الإريتري تجاه روسيا والصين ومنظمة البريكس، علاوة على التحالفات الإقليمية في حوض البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي، مما دفع واشنطن للتفكير مجدداً حول ضرورة احتواء هذا التوجه، وفتح نوافذ للحوار مع أسمرا، في إطار ما يمكن تسميته بـ”المواجهة المنضبطة“.
وعن موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الخلافات الإريترية- الإثيوبية حول ملف الموانئ، قال إدريس “ليست ثمة خلافات واضحة بين أسمرا وأديس أبابا، بل هناك مزاعم أسهبت فيها إثيوبيا حول امتلاك موانئ في البحر الأحمر، مما أثار مخاوف الأولى وكذلك دفعت لنقاشات في الأوساط الأمريكية بما فيها الكونغرس حول هذه المزاعم“.
ويرجح إدريس أن الولايات المتحدة لن تتورط بشكل مباشر في دعم هذه المطالب الإثيوبية، إذ إنها منشغلة تماماً بتداعيات الحرب في غزة، وما ترتب عنها على المستويين الدولي والإقليمي، بما في ذلك الأحداث في باب المندب، وتهديد الملاحة الدولية، بالتالي ليس من الوارد أن تتبنى واشنطن مواقف معادية للسيادة الإريترية على سواحل البحر الأحمر، بل قد تسعى إلى بناء الثقة مع كافة الدول المطلة على مضايق الممر المائي الدولي بغرض تأمين مصالحها الجوهرية في هذه المنطقة المهمة اقتصادياً وتجارياً. بحسب ما ختم الكاتب مقاله.